اتحاد المغرب العربي: التعامل مع المتغيرات

TT

تحل غدا 17 فبراير (شباط)، الذكرى 12 لميلاد اتحاد المغرب العربي، بمقتضى اتفاقية مراكش 1989، التي وقعها قادة ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وقبل هذه الذكرى بأسبوع، انعقدت اللجنة الأولى من اللجان القطاعية الثلاث التي شكلها قادة الاتحاد، وهي المختصة بالأمن الغذائي. وكان جمع هذه اللجنة نتيجة للاتفاق على تحريك دواليب المنظمة، على اثر الاتصالات الثنائية، واللقاءات التي تمت على هامش محافل دولية فيما بين قادة الأقطار الخمسة. وبعد مدة من الآن يجتمع وزراء خارجية دول الاتحاد لتأكيد إرادة تفعيل المنظمة، كجهاز له مؤسساته، وكمشروع عبر حين ظهوره عن إرادة البلدان الأعضاء، في تنسيق جهودها المشتركة لتطوير اقتصادها، ولمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

وهذا الكيان لا يتطلب مجرد الإرادة السياسية لأطرافه، بل هو محكوم باعتبارات موضوعية لا مناص من تلافيها، ومن ذلك الأخذ بقواعد العمل في مجال التجارة الخارجية، التي تكرست على الصعيد الدولي منذ انشاء الاتحاد.

إن إقامة اتحاد المغرب العربي هي في الأساس صيغة للانخراط في الاقتصاد العالمي، وبالتالي يجب ان تكون هذه الصيغة متطابقة مع ما هو متعارف عليه عالميا من قواعد وآليات.

وقد أخذت دول الاتحاد تسعى، كل بسرعة خاصة، إلى التكيف مع مقتضيات ذلك الانخراط، حيث يتوجب تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وبالذات في تصريف التجارة الخارجية. وفي سياق هذا التوجه يتولى القطاع الخاص زمام المبادرة، طبقا للقواعد المعمول بها في حظيرة المنظمة العالمية للتجارة. وذلك من خلال تحرير السوق، الأمر الذي بدأ في المغرب في 1983، وفي تونس في 1987، وفي الجزائر في 1992، وقبلها موريتانيا.

وهذا التطور يعطي للمقاولات مكانا متزايد الأهمية في الاقتصاد، ولكن باختلاف بين دولة وأخرى. وهذا أبرز ما تكرس منذ اتفاق مراكش الموقع عليه في 10 رجب 1409 موافق 17 فبراير (شباط) (النوار) 1989. وبتشجيع من الحكومات، تنشأ أوضاع يتسنى فيها للمقاولات أن تقيم علاقات تبادلية، ويمكن أن ينتقل الأمر إلى الاقتناع بجدوى قيام مقاولات من دولتين أو عدة دول، بمبادرات مشتركة في أسواق ثالثة. ولنا أن نتوقع نشوء وعي جديد لدى المقاولات المغاربية، بدورها وبإمكاناتها، كنتيجة لسقوط الحدود، تدريجيا فيما بين الدول الأعضاء.

وسنشهد جريان ديناميكية جديدة في أوصال اقتصاد المنطقة، حينما تقدم المقاولات على مفاوضات مباشرة فيما بينها، وتتولى إبرام صفقات، على أسس موضوعية، يحكمها تبادل المنافع وحساب المصالح. وهذا وضع يختلف عن السابق، حيث كانت القرارات تتخذ من قبل الأجهزة الإدارية، في مسارب بيروقراطية بعيدة أحيانا عن الواقع. إن نسيجا اقتصاديا يتشكل في المنطقة، قوامه بروز المقاولات الخاصة، وتحرير البنوك، وهو أمر حدث في المغرب منذ سنوات، بينما اختارت تونس أن يكون هناك تعايش بين بنوك خاصة وأخرى من القطاع العام.

ومن علامات التطور الحاصل أن مقاولة مغربية هي اتصالات المغرب قد فازت بصفقة الدخول في رأسمال الشركة الموريتانية للاتصالات، بعد أن شاركت في عرض أثمان دولي فازت فيه الشركة المغربية في إطار التنافسية والشفافية المرعيتين في هذا الصدد.

لقد قام المغرب بمراجعة أسس اقتصاده، طيلة العقد الماضي، بما رافق ذلك من سن قوانين جديدة لضبط الاستثمار، وترتيب الحقل السياسي بدوره، ليتناغم مع مقتضيات القواعد الجديدة للتعامل مع الخارج، على شاكلة ما هو متعارف عليه عالميا. وهو سائر في تحضير نفسه لموعد سنة 2010 حين تدخل منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الاوروبي في حيز التنفيذ. وهذا ما تقتضيه اتفاقية الشراكة التي أبرمها مع الاتحاد المذكور في 1995، ودخلت في حيز التنفيذ في فاتح مارس (اذار) من السنة الماضية. وقد أبرمت اتفاقية مماثلة بين الاتحاد وتونس، بينما تجري مفاوضات في نفس الصدد بين الاتحاد والجزائر. أي أن دول المغرب العربي تسير في نفس المسلسل، ولكن بسرعات متباينة. كل منها حسب حركية خاصة، بما يكتنف ذلك من مطبات ومراهنات.

وخاض المغرب في العقدين الماضيين مسلسلين متوازيين على الصعيد الداخلي، كانا يرميان من جهة إلى إقرار تراض وطني واسع وهادئ ومؤهل للبقاء، يعبر عنه توفيق تاريخي بين دولة قوية ومجتمع قوي. ومن جهة أخرى، إلى تأهيل النسيج الاقتصادي المغربي، لكي يكون مستعدا لتحمل تبعات شروط التنافسية، التي ستنشأ عن رفع الحواجز الجمركية نهائيا، بعد تسعة أعوام من الآن بين المغرب والاتحاد الأوروبي.

وقد اجتاز المغرب امتحانات صعبة وهو ينخرط في اقتصاد السوق، وذلك بتطبيق برنامج قاس للتقويم الهيكلي. ويمكن القول اليوم إن أصعب ما يمكن تصوره قد أصبح وراء. فإن التقويم الهيكلي، وتحرير السوق، وإبرام اتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوربي، حلقات في بناء مسيرة تطلبت عقدين من الزمان، تكامل فيها السياسي مع الاقتصادي.

وإن دول اتحاد المغرب العربي، وهي تهيئ نفسها لترتيب أوضاعها، وصياغة علاقاتها مع المحيط، مدعوة لإعطاء أسبقية لعلاقاتها مع الاتحاد الأوربي، نظرا لأن كل واحدة منها لا تقل نسبة مبادلاتها مع دول هذا الاتحاد عن 65 % من مجموع مبادلاتها التجارية. ومن شأن ترتيب تلك العلاقات أن يساعد على حسن ترتيب الأوضاع في حظيرة اتحاد المغرب العربي نفسه. إن مشروع إقامة منطقة التبادل الحر التي يقترحها الاتحاد الأوربي على دول جنوب المتوسط، يرمي إلى تكوين سوق تضم أربعين دولة وحوالي 800 مليون مستهلك، وهو مسلسل يمشي قدما، وهو لا ينتظر أن تتخلص دول المغرب العربي، وباقي الدول العربية، من فلكلورها الخاص، الذي يصرفها عن المضي فيما رسمته لنفسها من اتفاقية مراكش في 1989، وغيرها من المحاولات.

إن الواقع يقول لنا إن التبادل فيما بين دول اتحاد المغرب العربي، هو أضعف تجارة بينية توجد في أي مجموعة إقليمية في العالم، خاصة إذا قارنا الوضع مع الميركوسور ودول آسيا. ويرجع هذا الوضع الى ضعف التواصل بين الأقطار الخمسة، وبالتالي ضعف المعلومات عن فرص التبادل، والجهل المتبادل بالآليات، وبالأنظمة الجبائية، بالإضافة إلى عوامل سياسية واضحة للعيان، تتناقض مع الخطاب السائد، والملح، الذي يقدم الاتحاد كمشروع ضروري، وحيوي، ومستعجل، ولا مفر منه. ولكن تنصرف الدول المعنية عن ترجمة هذا الخطاب إلى واقع، في حين أن التهريب فيما بينها مهم جدا إلى حد يضايق التبادل النظامي، رغم التدابير بل ورغم إقفال الحدود في بعض الحالات. وفي السنة الماضية جأرت الصحافة الجزائرية بالشكوى من استشراء التهريب مع تونس، أما فيما يخص المغرب، فقد وصل الأمر الى مستوى الخطب الرسمية.

وكما هو واضح فإن التماثل في المسيرة التقويمية للاقتصاد في كل من تونس والمغرب قد ساعد على أن تكون اتفاقية منطقة التبادل الحر المبرمة فيما بين البلدين أجلب للنفع، وأكثر حيوية مما هو الحال مع باقي الأطراف، رغم أن اقتصادي الدولتين متنافسان.

وقد ساعدت الظروف على أن تبرم اتفاقيات للتبادل الحر بين كل من المغرب ومصر في مايو (ايار) 1998، وبينه والأردن في نفس السنة، وكذلك مع تونس، وكل هذه الاتفاقيات دخلت في حيز التنفيذ في السنة الماضية. وتم إبرام اتفاقية مماثلة بين المغرب وموريتانيا. أي أن مسيرة لابأس بها قد قطعت. وستجتمع هذه الدول لقياس نبض الحركية التي بثتها هذه الاتفاقيات، ولدفع المسلسل إلى الأمام.

لقد دار نقاش طويل منذ عقد من الزمان، في إطار لجنة تقنية، ثم وزارية، لدول المغرب العربي، حول التخطيط لمسيرة اقتصادية منسقة، على هدي ورقة تتضمن رؤية استراتيجية يستنبط منها مخطط للتحرك. وتجابهت إذاك وجهات نظر إرادوية وأخرى براغماتية، وانتهى الأمر إلى صيغة توفيقية توقعت أن تقام منطقة للتبادل الحر بين الدول الخمس قبل نهاية 1992، وأن يقام الاتحاد الجمركي قبل 1995، وسوق مشتركة في أفق سنة 2000، ثم يتوج ذلك بالانصهار في اتحاد اقتصادي. كان هذا التصور في يوليو (تموز) 1990. وتبين بعد عقد من الزمان أن الإرادوية لم تكن تطيع الاعتبارات الموضوعية. ويمكن أن يضاف إلى ذلك اليوم أن قرارات الحكومات يجب أن تكون متكيفة مع الآليات المتاحة، ومع قواعد العمل المعمول بها عالميا.

وغير خاف أن كل بلد مغاربي له مسيرته الخاصة، بغض النظر عن الآخر. وهناك خطاب نظري مفاده أنه لا يمكن للبلدان المذكورة أن تتحاور بكفاءة مع أوربا، الشريك الرئيسي، إلا إذا كان هناك ملف موحد. ومفاد هذا الخطاب أيضا، أنه لا يمكن النهوض باقتصاديات الدول المعنية إلا في إطار تنمية مشتركة.

لكن لا ينعدم من يتصور أنه سيخسر إذا ما انتظم في مسيرة الاتحاد. أو أنه يمكن أن يربح بدون الآخر، أو على حساب ذلك الآخر. ويبدو شيئا مغريا أن يؤجل المشروع إلى أن يتمكن هذا الطرف أو ذاك من الاستعداد حتى إذا وصلت لحظة يكون هو مهيأ للقيادة.

وهذا معناه أنه لا توجد ديناميكية وحدوية، او بالأحرى ثقافة وحدوية، يكون قوامها الاقتناع بأن إقامة اتحاد المغرب العربي، تكمل المشروع الوطني في كل واحد من الأقطار المعنية. أي أن يكون هناك اقتناع بأن الاتحاد هو الإطار الذي يحقق شروط حياة مريحة وواعدة بازدهار.