لبنان.. حرائق كثيرة وإطفائيون قلائل

TT

هناك سباق الآن في لبنان بين ألسنة اللهب وخراطيم مياه الاطفائيين. والمشكلة الاساسية اليوم كما كانت بالامس ان اياً من القوى او الشخصيات المتصارعة لا تبالي بالاطفاء الا بقدر ما يتركز على منطقة نفوذها، ولا تريد ان تفهم ان نيران الفتنة لن توفر احدا ما دام الوضع الاقليمي على ما هو عليه.. والوضع الدولي.. ايضا على ما هو عليه.

في الاسبوع الماضي تحدث الرئيس السوري بشار الاسد الى «الشرق الأوسط». وكان حديثه شاملا، تناول فيه الوضع اللبناني من جملة ما تناوله، وقال اشياء قد يتفق معظم اللبنانيين عليها وقد لا يتفقون. ولكن فجأة تحوّل الحديث الى حالة جدل حادة ومستمرة على الساحة اللبنانية بين مؤيد ومعارض ومستنكف عن التعليق بانتظار جلاء مزيد من المعطيات.

ثم اطل قائد الجيش السابق العماد ميشال عون على احدى المحطات الفضائية اللبنانية، من منفاه في باريس. وعبر مقابلة غير قصيرة كرّر عون الكثير من مقولاته وتشدد في نبراته ازاء امور مستجدة.. منها كلام الرئيس السوري لـ«الشرق الأوسط». ومرة اخرى تفجر جدل حاد حول كلام عون سواء من حيث «سخونته» او توقيته.

وحول التوقيت الملاحظ انه بينما تتعثر مبادرات الانفتاح والحوار، او «تجمد»، داخل لبنان ـ ومنها مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري المنسية ومبادرة الوزير السابق فؤاد بطرس المؤجلة ـ طار البطريرك الماروني نصر الله صفير في جولة اميركية ينتظر ان تشهد لقاءات يكرر فيها مواقفه ازاء عدد من المواضيع السياسية الحساسة التي تمس الوضع اللبناني. ويواصل رئيس الحكومة رفيق الحريري جولاته «السياسو ـ اقتصادية» على عدد من العواصم العالمية سعيا وراء انقاذ لبنان من محنته الاقتصادية الاليمة.

وسط كل هذه التطورات يجمع متابعون وثيقو الصلة بالوضع اللبناني على ان الامور سيئة للغاية ولا سيما على الصعيد السياسي. ويذهب هؤلاء الى ابعد من هذا فيقولون ان الشيء الوحيد الايجابي على الساحة السياسية هو انه ما زال هناك من يتكلم ويحاور..

بمعنى آخر ما زال هناك مقدار من حرية التعبير عن الرأي قد يتيح في يوم من الايام الانخراط في حوار سياسي بالعمق حول القضايا الشائكة الاساسية التي تشق اللبنانيين وتباعد بينهم. ولولا هذا المقدار القليل لاصبح البلد وامكانيات الوفاق فيه «في خبر كان».

الحقيقة ان هذا هو الانطباع العام الذي يتكون عند اي راصد جادٍ للوضع الداخلي اللبناني. فالرئيس الحريري قال قبل فترة ردا على تساؤلات عن علاقته برئيس الجمهورية الرئيس اميل لحود «ان هناك قرارا مركزيا ببقاء التفاهم والاتفاق.. ودمشق مع هذا القرار». وجوهر هذا الكلام ان لا خيار للبلد الا بالتفاهم «من فوق» والاّ فالجميع متجهون نحو الهاوية.

ثم اطلق رئيس البنك الدولي جيمس ولفنسون، ابان زيارته للبنان، كلمات بليغة بنفس الاتجاه والمعنى الضمني ذاته. اذ نصح اللبنانيين «بتحقيق» الوفاق الوطني، واعتبر ان تحقيق الوفاق هو المقدمة الضرورية لتجاوز الازمة الاقتصادية الخانقة. وحتما من دون سلام اهلي حقيقي (لا اعلامي) لن تظهر استثمارات ولا اعانات ولا قروض ولا مشاريع.

المجتمع الدولي اذاً ليس مقتنعا بان الوفاق الوطني في لبنان قد تحقق.. بالرغم من جهود الرئيس الحريري ومساعيه المضنية للطمأنة الى ان التعافي الاقتصادي سيعجل بانجاز الوفاق. والمشكلة بالنسبة للحريري وفريقه، وكل من يتمنى له النجاح، ان الازمة الاقتصادية تحوّلت في ايدي اقطاب الصراع السياسي والطائفي الى سلاح اضافي يشهرونه في وجه خصومهم استباقا لان يحمّلهم هؤلاء الخصوم مسؤوليتها، اذ لا يخلو خطاب تأزيمي سياسي الآن من اشارة الى «معاناة» المواطن ومتاعبه المعيشية ونزيف الهجرة المتفاقم.. وكأن لا علاقة للتحريض والتأزيم باستمرار المحنة الاقتصادية المعيشية وتوابعها! ايضا في غير صالح الجهود الجبارة التي يبذلها الرئيس الحريري الخيار التصعيدي الذي تبناه الناخب الاسرائيلي بانتخابه آرييل شارون رئيسا للحكومة.

فحتى هذا التطور الاسرائيلي ترك انعكاسات على مواقف التيار المتناحرة داخل لبنان، ولا سيما لجهتي سياسة «العصا الغليظة» التي يميل اليها شارون، وموضوع «توطين» اللاجئين الفلسطينيين. واذا كان رد الفعل الاولي على انتخاب شارون، عند طيف واسع من التيارات، الميل الى التخفيف من اهمية هذا الحدث، وتكرار اعتبار شارون وباراك «وجهين لعملة واحدة»، فقد تنكشف شروخ جدية خلال الاسابيع القليلة المقبلة.

فواقع الامر ان الزعم بوجود تفاهم لبناني ـ لبناني عميق وراسخ ازاء كل الاستحقاقات الاقليمية ـ او على الاقل ما يتصل منها بلبنان ـ زعم باطل. اذ ليس هناك اي تفاهم يستحق هذا المسمى بالنسبة الى الاستراتيجية الخاصة بالتعامل مع اسرائيل ـ شارون، او حيال استمرار المقاومة او جمع سلاح المقاومة او موضوع «التوطين».

وحسنا فعل وزير الداخلية الياس المر بالامس في حواره مع «الشرق الاوسط» حول اسباب رفض لبنان توطين اللاجئين الفلسطينيين في اراضيه. فقد كان صريحا وصادقا عندما قال ان الاعتبارات الطائفية او التوازنات الطائفية هي جوهر الرفض.. وليست الحرص على عودة اللاجئين الى فلسطين بأي ثمن.

كذلك كان الوزير المر صريحا اكثر عندما حمّل بعض الفلسطينيين بصورة مباشرة او غير مباشرة المسؤولية في ما وصفه بمناخ الحرب بين اللبنانيين والفلسطينيين (؟!) في مستهل الحرب اللبنانية، واغلب الظن ان تحليلا كهذا لا يحظى باجماع لبناني.

فإبان الحرب الاهلية اللبنانية لم يتحارب «كل» اللبنانيين مع «كل» الفلسطينيين ـ كما يعرف الوزير جيدا ـ وبالتالي من المستبعد ان يوافق «كل» اللبنانيين على معاقبة الفلسطينيين او الثأر منهم بترحيلهم.

ان الرأي العام اللبناني قد يكون مجمعا على رفض «التوطين» انطلاقا من حرص غالبية اللبنانيين على عودة الفلسطينيين الى ديارهم، الاّ انه ليس ثمة اجماع لبناني على سياسة «ترانسفير» تأديبية.

وكلام من نوعية كلام وزير الداخلية، لا شك، ينكأ جراحاً بمقدور مسيرة السلام الاهلي العيش من دون نكئها، ويطرح امام التيارات المتناحرة مزيدا من الذخيرة لمواصلة تصفية حساباتها بعيدا عن غاية الوفاق المنشود.