خلل في تراثيات المحبة

TT

أول فاكس وصلني صباح الأربعاء الماضي من غاضب لاجب يحتج على كثرة الاستشهادات في موضوع الحب بفلاسفة وادباء اجانب، وتراثنا ـ كما قال ـ مليء بما هو أفضل مما هدتنا اليه القريحة.

ونصف هذا الكلام صحيح ـ فقد كان بالإمكان الاستشهاد بالأصمعي الذي سئل عن الحب ـ وكانوا يعنون به فقط حب النساء ـ فقال ان تجد البصل منها أفضل من العسل عند غيرها.

وهذه خبرة عسلية محترمة تقلل من شأن البصل وتنسى ان الناس في ما يعشقونه مذاهب وروائح، فكم من امرأة تتزين، وتتعطر وتضيع نصف يومها في المكيجة والمكننة لتكتشف آخر العمر ان زوجها كان يحبها برائحة المطبخ حين تعشش رائحة الزيت والثوم المقلي في أردانها.

وسقى الله أيام العسل والبصل والثوم والنعناع والبقدونس، فكل الروائح تهون أمام رائحة الاحساس بالحرية وهذا شيء غير الحرية فيكفي احياناً ان تحس انك حر، وعندها قد لا تمارس حريتك انما تكتفي بذلك الشعور الداخلي اللذيذ فالعاشق الناجح، وحسب وصية جبران، يجب ان يحسب برشاقة حساب تلك المساحة: «فلتكن هناك فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض في حياتكم المشتركة، ولتدعوا رياح السماوات تتراقص فيما بينكم. أجل فليحب أحدكم الآخر ولكن لا تقيدوا الحب بالقيود، بل ليكن الحب بحراً متموجاً بين شواطئ نفوسكم».

وهذا كلام في حالة الحب الحقيقي «مجرد هجايص لا تودي ولا تجيب» فجبران قدس الله قلبه كان عاشقاً نظرياً يختلف عن العاشق التطبيقي الذي يعرف منذ اللحظة الأولى ان الحرية مع الحب سراب في سراب، فمن تحبه ـ ان كنت صادقاًـ لا بد ان يستعبدك ويصادر وقتك وتفكيرك وخيالك بل وارادتك فأنت لا تريد ولا تحب ولا تهوى إلا ما يحبه من يهواه قلبك.

وفي هذه كان ابن قيم الجوزية أدق وأعمق من جبران فانظر اليه ـ يا رعاك الله وانعش فاكسك وانترنتك ـ حين يقول في روضة المحبين ونزهة المشتاقين عن انقياد المحب للمحبوب «ومن علاماتها ـ يقصد المحبة ـ انقياد لأمر المحبوب وايثاره على مراد المحب بل يتحد مراد المحب والمحبوب وهذا هو الاتحاد الصحيح لا الاتحاد الذي يقوله اخوان النصارى من الملاحدة فلا اتحاد إلا في المراد وهذا الاتحاد علامة المحبة الصادقة بحيث يكون مراد الحبيب والمحب واحداً فليس بمحب صادق من له ارادة تخالف مراد محبوبه منه».

وطبعاً لا داعي لذم النصارى في نص لا علاقة لهم به لكن الشيخ الجليل الذي له محاولات في مدح الهوى وأخرى في ذمه يجب ان يجري على عادة السلف في ذم عاداتهم وأعيادهم، وهي عادة تتكرر عندنا الى اليوم، فالانترنت منذ ثلاثة أيام مليء بالتحريض على ذم عيد فالنتاين وأهله وهذه مسألة ليست دينية ولكنها اجتماعية، فنحن مجتمعات تخاف من الحب وتعتبره كالشر وأقل يعني: ابعد عنه ولكن لا تغني له فهو لا يستحق الغناء والعناء كما يعتقدون.

ان بعض تراثنا يا أخي الغاضب يهتم بمصطلحات الحب أكثر من اهتمامه بحالة العشق الداخلية لأن المجتمعات المتعودة على السرية والكتمان والخوف من العواطف الانسانية ترتاح للتوصيف الخارجي ولا تستبطن الحالة من داخلها، وان كنت لا تصدق فاسال نفسك لماذا نجد للحب عشرات الاسماء والمراتب (الهوى ـ الكلف ـ العشق ـ الشغف ـ الجوى ـ التيم ـ التبل ـ التدليه) ولا نجد وصفاً لتأثيره وتجلياته إلا في القص الشعبي كما تجلى في بعض حكايات الف ليلة وليلة.

ولتوضيح الفكرة أكثر اليك هذا النص في أول كتب العشق العربي «الزهرة» لمحمد بن داوود، حيث يبدأ بداية صحيحة في وصف الحب ثم يتوه ويضيع ويستنجد بالانشاء حين يصل الى أول ضفافه الضحلة فما بالك بعمق محيطاته.

يقول ابن داوود عن الحب «فأول ما يتولد عن النظر والسماع والاستحسان ثم يقوى فيصير مودة ثم تقوى المودة فتصير محبة ثم تقوى المحبة فتصير خلة، والخلة بين الأدميين ان تكون محبة أحدهما قد تمكنت من صاحبه حتى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخللاً لسرائره ومطلعاً على ضمائره ويقال ان الخلة بين الادميين مأخوذة من تخلل المودة بين اللحم والعظم واختلاطها بالمخ، ثم تقوى الخلة فتوجب الهوى والهوى اسم لانحطاط المحب في محاب المحبوب وفي التوصل الىه بغير تمالك وترتيب....».

والنص طويل لكن ألم تلاحظ يا عاشق تراث العشق ان اسلوب الرجل اختل وضعف منذ ان وصل الى اسقاط السرائر والاطلاع على الضمائر، والذنب ليس ذنبه لكنه ذنب ثقافة سرية تسمح بالموبقات والحسنات ولا تجيز الحديث عنهما، فالعربي يصرف ثلاثة ارباع وقته وثلثي مخيلته في التفكير بالحب والجنس لكنه يرفض ان يتحدث أو يكتب عن ذلك لذا يظل حديث العشق في تراثنا وحاضرنا ناقصاً، ولو اكملناه لما وجدنا من ينشر لنا ولو على حبال الغسيل في مطابخ الامهات المتسامحات، فهل عرفت ـ يا صاح ـ السر في انصرافنا عن الخوف البوليسي الغامض الى غموض الخوف اللذيذ المشع؟

نأمل ذلك ونتمنى بك وبامثالك يا أخي عبد الرزاق ان نتمكن من تصحيح الخلل الموروث في تراثيات المحبة لنتمكن مستقبلاً وحين يتعلق الأمر بسقف القول من مغادرة مرتبة «أضعف الإيمان» .