بوش فاز ثانية وأوروبا يحكمها دستور واحد

TT

تسمّرت أنظار العالم في الأسبوع الماضي على شاشة التلفاز بترقب حثيث لمن سيشغل البيت الأبيض للسنوات الأربع المقبلة، وانشغلت الجرائد والفضائيات العربية في معظمها بالتحليل المحمّل بالآمال والتوقعات. وتقريباً في الوقت ذاته، سجلت أوروبا حدثاً تاريخياً يفوق بأهميته لها ولبلدان الشرق الأوسط الحدث الأميركي، وذلك بتوقيع قادة أوروبا أول دستور أوروبي يؤسس لكيان سياسي تمثله وزارة خارجية لخمس وعشرين دولة يتحدثون لغات مختلفة ويتحدرون من أعراق مختلفة ومن بيئات ثقافية وخلفيات تاريخية متنوعة، وتنشغل شعوبهم وبلدانهم بآليات عمل وتوجهات مختلفة، ومع ذلك وحّدت بينهم الإرادة الأكيدة للمصير المشترك والمستقبل الموحد. ويأتي هذا التوقيع نتيجة نصف قرن من العمل الوحدوي الدؤوب الذي استثمر جهود القادة والشعوب على حد سواء، الذين كرّسوا خيرة الكفاءات والعقول الأوروبية من أجل أن ينضمّوا جميعاً تحت لواء صناعة مستقبل أوروبي موحّد، وذاب في هذا المضمار الأشخاص والأحزاب والبلدان ليتوصلوا إلى صيغة يجد كل منهم فيها مصلحة لبلده وشعبه، ويفخر أنه ساهم ولو بكلمة أو فكرة أو جهد لتشييد بنيان موحد بالغ التعقيد والصعوبة. ومعظمنا يتذكر حين كانت الوفود الأوروبية المعنية بالتوصل إلى سياسات موحدة أو عملة موحدة أو توجهات مشتركة، توقف الساعة وتمضي أياماً لا تغادر موقع الاجتماع إلى أن تتفق على الأقل على تحديد الصعوبات ومنهجية مقاربة وتذليل هذه الصعوبات. أي أن الإنجاز التاريخي والهام الذي توصلت إليه أوروبا بتوقيع الدستور الأوروبي، والذي من دون شك سيغير مستقبلها للأجيال المقبلة وسيجعل منها قوة دولية يحسب لها حساب، جاء نتيجة عمل دؤوب متواصل وتفانٍ ومنظور وطني وابتعاد كلّ البعد عن الحساسيات الفردية والشعور المتورم بالذات، وأيضاً نتيجة استراتيجيات واضحة ومدروسة وتخطيط علميّ وأبحاث وفرق عمل تناوبت وتعاقبت على مدى سنوات لإنجاز الأهداف الصعبة المرتجاة من حلم الوحدة الأوروبية.

القاسم المشترك بين هذا الحدث الأوروبي التاريخي الهام وبين فوز الرئيس بوش بولاية ثانية، رغم الصخب العالمي الذي أثير حول حربه على الإرهاب واحتلاله للعراق والكره الذي استحضره للولايات المتحدة في مناطق عديدة في العالم، هو أنّ نجاح الرئيس بوش في هذه الانتخابات أتى أيضاً نتيجة عمل دؤوب واستراتيجية واضحة وإيمان لا ينكسر بحتمية الفوز والإعداد له أيمّا إعداد. ففي الوقت الذي كان الجميع يتحدث عن الفوضى التي سببتها حرب الولايات المتحدة في العراق والخسائر الأميركية هناك، وازدياد التطرّف والحوادث الإرهابية في العالم، عكف مدير حملة بوش الانتخابية كارل روف على استخدام الوسائل السحرية من إعلام وإشاعات ودعاية للتأثير على الناخبين. ويلخص روف فلسفته بأنه «ليس أمراً هاماً ما يفعله أو ما يقوله السياسي بالضرورة، بل الطريقة التي يظهر بها والأجواء التي تحيط به والصورة الذهنية التي تنطبع لدى الجماهير عندما ترى هذا السياسي أو ذاك». ولهذا كان روف يقول خلال الحملة الانتخابية للرئيس جورج بوش: « لا يهمني ما يقوله مرشحنا جورج بوش. المهم أن يظهر ضمن صورة حاشدة حافلة مزدحمة بالجماهير والناس في إطار كرنفالي على أن يدخل إلى المسرح في خطوات رئاسية الإيقاع». والشعار الأثير لروف هو «هاجم ثم هاجم ثم هاجم»، وقد قرّر من أجل نجاح الحملة الانتخابية للرئيس بوش أن يستثمر القضايا الأخلاقية المتمثلة بـ «الله، والسلاح، ومسألة المثليين»، التي تكتسب أهمية كبرى لدى يمين الناخبين الأميركيين، فركّز عليها وعمل ضمن استراتيجية وبدأب على كسب أصوات هؤلاء الأميركيين بغض النظر عن كوارث العراق وخطر الإرهاب وفشل السياسات الأميركية في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، في الوقت الذي كان معظم المحلّلين يؤكدون أن الوضع في العراق سيلعب دوراً حاسماً في الانتخابات الأميركية.

وفي كلتا الحالتين بقيت الحالة العربية متلقّية للخبر من دون تنقيح أو تدقيق أو حتى تغطية الخبر الأهم بما يليق به منظور عربي، إذ لا تملك إلا أن تتساءل وأنت تقرأ الكمّ الهائل من الإعلام العربي: أين يقف العرب من هذه الأحداث، وهل بدأوا بتحليل أثر هذه الأحداث عليهم وعلى مستقبل أمتهم؟ وهل تركّز التفكير اليوم على قراءة دقيقة لما يجري وتحديد موقف واضح منه بما بتناسب والمصالح العربية العليا؟

المشكلة اليوم هي أنه مجرد استخدام «الحالة العربية»، أو «المصلحة العربية»، يرتسم سؤال في الأفق حول من يمثّل هذه الحالة أو هذه المصالح؟ وهنا بيت القصيد. ففي الوقت الذي تلتئم شعوب أوروبا التي خاضت الحروب طوال القرون ضد بعضها البعض، والتي تتألف من قوميات وعقائد وأعراق متنوعة لتشكّل كياناً سياسياً موحداً ذا قوّة اقتصادية وبشرية وسياسية ضخمة، وفي الوقت الذي تشكّل الولايات المتحدة تآلفاً بين هويات وأعراق مختلفة، نظّم العلاقة في كلتا الحالتين آليات عمل واضحة ومحددة وأهداف استراتيجية وقضايا عامة أخذت الأولوية فوق كلّ اعتبار، نلاحظ تجذراً حقيقياً للقطرية في العالم العربي وترسيخ حدود سايكس بيكو على الأرض والفكر والمواقف والسياسات، ومحاولات يومية لتثبيت فكرة أن الخلاص القطري هو الحل الوحيد وأن الشعب العربي الذي يتكلم لغة واحدة وذو إرث ثقافي وحضاري واحد يجب أن ينقسم انقساماً قسرياً ضمن الحدود التي رسمها لنا الاستعمار، ويتعامل الإعلام العربي مع هذا التوجه إما بحيادية سلبية أو بتعاون خفيّ أزاح عن كاهله أي شعور بالمسؤولية.

فالقارئ للصحف العربية على سبيل المثال، بعد إعلان نتائج فوز الرئيس الأميركي بوش، يفاجأ بحجم التغطية التي تصل حدّ التحريض ضد سوريا ولبنان، والتنويه عن تمسك الإدارة الأميركية بسياستها الخارجية اتجاه سورية ولبنان «و لاسيما استراتيجيتها السياسية تجاه منطقة الشرق الأوسط»، وكأنّ هذه الاستراتيجية تنسجم تماماً مع المصلحة العربية العليا أو مع طموحات الشعب العربي في معظم أقطاره. وبالمقابل فإن وسائل الإعلام العربية نفسها تغفل أي خبر يمكن أن يشير إلى احتمالات ضغوط على إسرائيل أو توجهات أوروبية جادة لإعادة الحسابات الدولية لما فيه مصلحة استئناف عملية السلام في الشرق الأوسط.

الاستنتاج الوحيد المنطقي والمتعقّل، هو أن العرب بحاجة إلى أن يجدوا طريقة للتعبير عن هويتهم ومصالحهم في عالم ينشغل كل قطب فيه ببلورة هوية لم تكن موجودة قبل بضعة عقود أو سنوات، بينما يتجاهل العرب هوية وإرثاً وحضارة وتاريخاً شكّل لهم كياناً ولغة وثقافة ساهمت برفعة الإنسانية جمعاء. والبداية هي في أن يشعر كلّ عربي أنه مسؤول عن مصير هذه الأمة، وأن يفكّر بمساهمة فاعلة لوضع أمته في مكانها السليم بين الأمم، ولا توجد أسرار ولا مستحيلات، بل إيمان عميق بالهوية يترافق مع رؤية واضحة وعمل جماعي دؤوب يرتفع فوق الأشخاص والحدود. هذه هي الرسالة الهامة التي يمكن لنا أن نستخلصها من الانتخابات الأميركية وتوقيع الدستور الأوروبي.