زمن بلا هوية

TT

يوم توقيع وثيقة الدستور الأوروبي في روما نشرت صحيفة «دي سايت»، وهي آخر معاقل الأنتلجنسيا الألمانية، تصريحات ملفتة للبروفيسور مانفريد فورمان، المؤرخ والأستاذ اللامع في جامعة كونستانز، عن طبيعة الهوية الأوروبية الجديدة التي تكاد تختفي مع قرب اكتمال الوحدة السياسية.

ولأن كل مؤرخ رصين لا بد أن يعود إلى قديمه ليفسر المعاصر ويمد آفاق الرؤية إلى المستقبل، قال فورمان إن الحضارة الأوروبية كما نعرفها اليوم، قامت هويتها رغم تشكلاتها العديدة والمتحولة على عمودين لا ثالث لهما: الأول مجموعة التقليعات الفكرية الموروثة من الرومان والاغريق، والثاني الإرث المعقد للتقاليد اليهودية ـ المسيحية، التي دخلت النسيج الأوروبي كعامل خارجي ثم تحولت إلى جزء أصيل منه.

وللوهلة الأولى لا تلمح جديدا في هذا الموقف، فديورانت في «قصة الحضارة» يضع جهده الأساسي لتفسير حضارة أوروبا في المجلد الخامس المعنون (قيصر والمسيح)، والمجلد الذي قبله المخصص لحياة اليونان، ثم يأتي عصر النهضة كبديهية حتمية، فهو على إشراقه ليس إلا حركة بعث حضاري لذلك الإرث القديم.

والنتيجة التالية والمفهومة سلفا لكل مهتم بتاريخ الحضارة ـ وهنا جديد البروفيسور الألماني ـ أن هذا الاكاديمي المرموق يعلن للحضارة الأوروبية في يوم التوقيع الرسمي لدستورها، عن غياب العمودين الأساسيين اللذين قامت عليهما طيلة عهدها الزاهي منذ عصر النهضة، فالتقاليد المسيحية اليهودية صارت قي المجتمعات العلمانية مجرد فلكور مناسبات، والموروث الصافي من (انتيكات) الاغريق والرومان وتقليعاتهم لم يعد ملائما لتعددية هذا الزمان، فديمقراطية أثينا التي طورها الأوربيون وعصروها إلى أن لم يبق منها شيء، لم يستفد منها العبيد ولا الفلاحون، أي أكثر من نصف المجتمع. والإرث الروماني في الحكم والسياسة تدخل إليه اليوم، بانضمام شعوب أوروبا الشرقية وقبرص وقريبا تركيا، عناصر غريبة بل مضادة لذلك الإرث، الأمر الذي يجعل من نظرية الصفاء الحضاري وعراقة الهوية الأوروبية وتميزها مجرد نكتة لا يمكن الدفاع عنها في معركة الهويات المتصارعة في قلب الفكر الأوروبي، الذي شجع بعدوانيته الشعوب الأخرى على التفكير بالهوية قي وقت كان يفقد فيه بالتدريج هويته.

ولا شك أن ملاحظات مؤرخ وأكاديمي من هذا الوزن، تؤخذ بثقل واهتمام أكبر في ما لو صدرت التعليقات ذاتها عن سياسي أو إعلامي، فقد تعودت أوروبا على احترام الأكاديميين الذين لا يطلقون تصريحاتهم جزافا ولا للاستهلاك المؤقت، وهؤلاء يقولون منذ زمن إن كل من يحيي التفكير بالهوية حسب تعريفاتها الكلاسيكية إنما يمهد عمليا للدفاع عن التخلف، فهذا عصر سقطت فيه مسلمات ونظريات كثيرة ولم يفهم طبيعته الشائكة إلا كل مفكر مستقبلي جسور.

من كان قبل ربع قرن من الزمان يراهن على أن الوحدة السياسية ممكنة من دون لغة وتقاليد وعادات، بل وبأنظمة متباينة تمتد من الجمهوري المتطرف إلى الامبراطوري المحافظ وما بينهما؟

أوروبا أثبتت أمكانية ذلك، ومع دستورها الجديد الذي يتزامن مع سقوط آخر عمودين من أعمدة هويتها الحضارية، تدخل هذه القارة قبل غيرها إلى حلبة التحدي الجديد الذي يلغي الحدود ويجعل الشركات الكبرى أهم من الدول العظمى، ويجبر الثانية عاجلا أو آجلا، على تسليم الكثير من سلطاتها ومصالحها للشركات العابرة للقارات التي لا تقيم اعتبارا لأي موروث ولا تدافع إلا عن سلامة رأس المال الذي لا وطن له ولا ينتمي مهما كانت جنسية صاحبه لأية هوية.