السياسات الكيدية تعيق تقدم الجزائر نحو دولة القانون

TT

هل تشهد الجزائر قريبا ليلة دامية جديدة يقتل فيها ربان هذه السفينة المبحرة في خضم بحر مائج ويلقى به من فوق سطحها؟ هكذا يرسم مسؤول فرنسي بارز ما يعتقد بأنه سيكون «نهاية النظام الحاكم» في الجزائر. وكانت محاولة الحكومة الفرنسية لتقدير احتمالات تحقق هذا السيناريو، في جانب منها على الاقل، وراء ارسالها وزير خارجيتها هوبير فيدرين الى هناك في زيارة تستغرق خمس ساعات.

كما ابدى عدد من المسؤولين الفرنسيين قلقهم مما قد يرافق حصول نهاية مفاجئة لعهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من زج الجزائر بأسرها في دوامة عنف لم تشهده منذ احلك الايام التي مرت عليها سنة .1994 وكان دعم فرنسا لبوتفليقة سنة 1999 عاملا مهما في نجاحه في توحيد النخبة الحاكمة ونيل تأييدها في الانتخابات الرئاسية. وسارع بوتفليقة بعد فوزه في الانتخابات الى رد جميل فرنسا الذي اتسم بالفعالية والسرية، فقام بزيارة رسمية لباريس تجاوز فيها ما كان فرضه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين. كما اعاد الحضور الجزائري داخل هيئات ومنظمات الامم الناطقة بالفرنسية بعد مقاطعة لها استمرت نحو 40 عاما. الى جانب ذلك، جمّد بوتفليقة سياسات التوقف عن استخدام الفرنسية كلغة رسمية في الجزائر، وبعث باشارات مصالحة عديدة لافراد «الأقدام السوداء» من ابناء المستوطنين الاوروبيين السابقين في الجزائر. من جانبهم، ظل هؤلاء، الذين يشكلون جماعة ضغط متنفذة في باريس، يتغنون بمديح بوتفليقة على مر السنتين الماضيتين. ولأن معظم ابناء «الأقدام السوداء» من اليهود، فان المصافحة التاريخية بين بوتفليقة ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك لا يزال يشار اليها على انها من جملة الاعمال «الشجاعة والمتبصرة».

ولم تقتصر سياسة بوتفليقة المؤيدة لفرنسا على الكلام، فكل العقود التجارية الكبرى العشرين التي وقعتها الجزائر مع شركات اجنبية خلال العامين المقبلين كانت من نصيب شركات اوروبية كبرى ذات ادارة فرنسية، عدا واحد من بينها وقع مع شركات اميركية لشراء طائرات بوينغ.

رغم ذلك، لا تتوفر سوى اشارات قليلة تشي باستعداد فرنسا لمساعدة بوتفليقة على الخروج من العاصفة التي تضرب البلاد. بل يمكن الزعم بأن فرنسا لم تقدم لبوتفليقة لقاء كل ما بذله لها سوى اقل القليل. لقد زادت عدد التأشيرات الممنوحة للجزائرين الراغبين في زيارتها، كما دشنت مشاريع ضمانات ائتمانية محدودة للصادرات الفرنسية الى الجزائر، الى جانب برنامج لتدريب ثلة من افراد الشرطة الجزائرية على استخدام معدات واساليب جديدة. مع ذلك، احتفظت فرنسا بموقفها السابق القائم على مبدأ الانتظار والترقب الذي اتصفت به ازاء سلف بوتفليقة السابق الامين زروال.

وكان العذر الدائم الذي احتجت به فرنسا في الامساك عن دعم الامين زروال عدم تأكدها من انه سيصمد في الحكم لفترة طويلة من الوقت. غير ان زروال نجح في السيطرة على دفة الامور طوال ست سنوات مرهقة خلال الفترة الاحلك من تاريخ الجزائر المعاصر. وتستخدم فرنسا العذر ذاته في امتناعها عن دعم بوتفليقة، اذ تتشكك الدوائر الباريسية في قدرته على اتمام مدته الرئاسية البالغة خمس سنوات. وما يضفي اهمية اكبر على الموقف الفرنسي ان بقية دول الاتحاد الاوروبي، والولايات المتحدة ـ ولكن بدرجة اقل ـ تنظر الى فرنسا على انها «الخبيرة» في الشؤون الجزائرية، ولهذا فانها تتبنى تحليلاتها الخاصة. وتكون النتيجة في نهاية المطاف ان تجد الجزائر نفسها فجأة من دون اصدقاء اجانب اقوياء في الوقت الذي تكون فيه بأمس الحاجة لهم. ويعرب الفرنسيون عن عجزهم دعم بوتفليقة بدعوى انه قد يجد نفسه خلال بضعة اسابيع مطرودا من منصبه. غير انهم بقول ذلك وعدم تقديم اي مساعدة له يصبحون طرفا في اي مؤامرة تدبر لخلعه من منصبه.

وهذا يدفعنا الى التساؤل عما اذا كان خلع بوتفليقة من منصبه في صالح اي جهة من الجهات؟ لا شك في ان ذلك ليس في مصلحة فرنسا او الاتحاد الاوروبي او الولايات المتحدة. بل ان مصلحة الديمقراطيات الغربية البعيدة تكمن في تطور الجزائر باتجاه ان تصبح دولة متأسسة على المؤسسات والقانون، تتعاقب فيها الحكومات من خلال انتخابات حرة ونزيهة، لا عبر المؤامرات والانقلابات العسكرية. واذا كان بوتفليقة رئيسا سيئا فينبغي ان يصدر الحكم عليه من الناخبين الجزائريين بعد سنوات ثلاث، فما من عقوبة اشد على السياسي من تلك التي ينزلها به جمهور الناخبين.

ان اي تدخل غير قانوني من جانب الجيش في السياسة الجزائرية لن يساهم الا في اعاقة خروج البلاد من دوامة الاضطرابات والعنف التي عصفت بها طيلة العقد الماضي. كما ان اي رحيل مبكر لبوتفليقة ليس في مصلحة الجزائر. ومنذ استيلاء بومدين على السلطة بواسطة انقلاب عسكري قاده ضد الرئيس احمد بن بيلا، والجزائر تعاني من مشاكل شرعية الحكومات المتعاقبة فيها. وقد نجح بومدين في دفع تلك المشكلة الى الخلف لاسباب تعود لشخصيته ذات التأثير الجماهيري. غير ان مشكلة الشرعية سرعان ما عادت لتتوسط المسرح السياسي الجزائري اثر تعيين قادة الجيش الجزائري العقيد الشاذلي بين جديد رئيسا. وقبل ان ينجح الشاذلي في تحقيق قدر من الشرعية لنفسه، أرغم على الاستقالة. وتكرر الامر نفسه مع الامين زروال الذي حصل على شرعيته عبر الانتخابات الرئاسية سنة 1995، لكنها لم تحصنه من المكائد التي دفعته الى الاستقالة في نهاية المطاف. اما بوتفليقة فقد حصل على شرعيته عبر انتخابات حقيقية حتى وان سادها شيء من المشاكل، ودعم بعد ذلك وضعه من خلال كسب تأييد كبير في الاستفتاء العام الذي اجراه حول مشروع الوئام الوطني الذي طرحه.

ويجب على هؤلاء الذين يختلفون مع بوتفليقة، عادة لأسباب جيدة، ان يتعلموا مواجهته علنا وعن طريق المؤسسات. ففي الجزائر برلمان، حتى ولو لم تكن لديه السلطات التي يتمناها المرء، يمكنه الاشراف على سياسات الرئيس وانتقادها. وتوجد ايضا صحافة مملوكة ملكية خاصة يمكنها ان تجعل موقف اي رئيس صعبا للغاية. وفي اسوأ الحالات يشتمل الدستور على نصوص واجراءات لتوجيه الاتهام للرئيس وعزله من السلطة عن طريق عملية شرعية وعلنية.

ان منتقدي بوتفليقة، بمن فيهم عدد من مؤيديه السابقين في باريس، يدعون انه «يضيع الوقت» نتيجة لعدم قدراته و«كسله». وحتى لو كانت تلك الادعاءات صحيحة، فلا يزال قبول اتهام «تضييع الوقت» افضل من السخرية من جميع القوانين والمؤسسات وعزل رئيس الدولة عن طريق الحملات والشائعات والمؤامرات.

ومن جهتهم يجب على الجزائريين تعلم الدخول في معارك سياسية علنا. فالجزائر لديها الكثير من المؤسسات، على الورق على الاقل، من اجل ذلك بالضبط. والمؤسسات تصبح ذات مغزى عن طريق احترامها واستخدامها على المدى الطويل. كما ان الرأي العام في الجزائر ناضج، وهناك شخصيات سياسية قوية في جميع المعسكرات، وبعد حقبة من المآسي، توجد حكمة شعبية كافية لتطوير نظام جماعي حقيقي مؤسس على حكم القانون.

كذلك، فإن على الفرنسيين والاوروبيين تعلم معاملة الجزائريين كشعب من الناضجين والاسوياء. وعليهم انتقاد السلطات الجزائرية علنا وبأمانه كلما تطلب الامر ذلك. وفي الوقت ذاته، عليهم الاستعداد للتعامل مع الجزائر طبقا لايقاعها.