حرية آرييل شارون في البطش

TT

ربما كان انشاء دولة اسرائيل في القرن العشرين قصة بالغة الحرج ومؤلمة للضمير، مهما يكن غيبة هذا الضمير وغرقه في سبات طويل، فهي انشئت على وطن شعب آخر قامت العصابات الصهيونية، تحت سمع وبصر العالم بذبح، وطرد الشعب الفلسطيني، بما لا يقل بشاعة عن ابادة النازية لليهود قبيل الحرب العالمية الثانية وابانها، والذي كان المبرر الاخلاقي لقيام وطن قومي لليهود، وهكذا يبدو التناقض الصارخ بين مبرر اقامة وطن لليهود وبين انتهاك شعب بأسره انتهاكا بالغ القسوة وأبعد ما يكون عن القيم الانسانية التي كانت القوى السياسية الكبرى تتغنى به.

قصة نشوء اسرائيل تبعث اليأس في نفوس المثقفين في العالم الذين كانوا يتوقعون انقضاء زيادة القوة والعنف العسكري باعتباره مصدرا للحقوق، وقيام القانون والسلطة الدولية الديموقراطية التي تفض المنازعات على اسس الشرعية القانونية، وليس هناك من أهين اكثر من منظمة الامم المتحدة حين تجاهلت اسرائيل بشكل دائم قراراتها التي كانت تفعيلا لفكرة سيادة القانون الدولي عند تفجر النزاعات. وطوال الخمسين سنة الماضية تستبعد الامم المتحدة من التدخل في الكوارث الناشئة عن قيام الدولة الاسرائيلية على الارض الفلسطينية وتعاملها البشع مع الفلسطينيين الذين اغتصبوا وطنهم، ومنذ محاولات التسوية وكل المشاريع تتم خارج المنظمة الدولية وبعيدا عنها. ومهما تحاول اجهزة الاعلام والسياسيون في الدول الكبرى تبرير الجرائم الاسرائيلية بعدم شرعية الدولة، فان الرجل العادي في أي بقعة في الارض مازال قلقا، رغم التثقيف العنصري الخبيث الذي لم يتورع عن ان يستخدم كل الرواسب القديمة ضد العرب والمسلمين لدى الناس البسطاء ثم التلاعب بالمقدسات الدينية لربط اليهودية بالمسيحية باعتبارهما شيئا واحدا مختلفا عن الاسلام، لقد عبث بكل شيء سواء في مجال المقدسات الدينية أو في التمييز العنصري أو التاريخ السياسي القديم والحديث حتى يستطيع رجل الشارع ان يتقبل الظلم الماحق الذي يحيق بالفلسطينيين وبالعرب عموما، وعلى الرغم من كل هذا فان الجريمة مازالت اكبر من ان يبتلعها الرأي العام العالمي.

وما اكثر الساسة الكبار الذين اضطروا لمخالفة ضميرهم وراحوا يتحدثون عن وقف العنف من جانب الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، دون ان يعقدوا أي مقارنة بين الصواريخ والمروحيات والدبابات التي تهاجم بضراوة هجوما بالحجارة، حتى الرئيس الفرنسي شيراك اعلن مؤخرا ـ تجاوبا مع مبعوث السفاح ارييل شارون ـ انه قبل الحديث عن أي مفاوضات يجب وقف العنف المتبادل، أي عنف؟ ان دولة اسرائيل بقضها وقضيضها تقوم باغتيال السياسيين الفلسطينيين وتعتبر هذا انجازا عظيما، فضلا عن الهجوم الصاروخي على مساكن بسطاء الناس من ابناء الشعب الفلسطيني.

وهل يدرك الرئيس الفرنسي ان سبب الانتفاضة والذي تمثل في انتهاك شارون للمسجد الأقصى الذين يعتبرونه ثالث الحرمين مازال قائما الى الآن. وان القدس المدينة التي تشكل ركنا من اركان الحياة الروحية للمسلمين والمسيحيين الفلسطينيين والعرب يتم التلاعب بها لصالح الاطماع الاسرائيلية، وما الذي يستطيعه الرئيس ياسر عرفات لاسكات الانتفاضة وكل الاحداث المحيطة تشير الى ضياع حقوق شعب الانتفاضة؟ ان الذي يقوم به الفلسطينيون هو استشهاد علني يوصم القوى الكبرى في هذا العالم بالعار. فها هو ذا شعب يذهب الى الموت اختيارا ليستيقظ ضمير العالم، وهي مأساة كبرى لن تنساها الاجيال القادمة ان صح ان الجنس البشري سوف يرتقي عما هو عليه الآن من شر وفقدان للضمير.

والامور تبدو اسوأ من ظواهرها، على ما في هذا الظاهر من سوء بارز، فالمرض ليس في بعض القادة المتطرفين مثل نتنياهو أو شارون أو شامير أو باراك بل في الشعب الاسرائيلي نفسه الذي نشأ وتربى على الكراهية والتمييز العنصري وإعلاء منطق القوة على منطق الحق، فهو الاكثر تعطشا للدماء، وهو الذي يتنافس القادة الاسرائيليون على ارضائه بقتل الفلسطينيين وارهابهم، ولقد فاز شارون بمقعد رئيس الوزراء لأنه الاكثر فتكا بالشعب الفلسطيني الذي لم يلمس قلبه أي شعور انساني.

ان الاسرائيلي يعرف بغير شك انه مغتصب ويستنتج بالتالي ان القوة الحاسمة هي وحدها التي يمكن ان توفر له الامان، ولذلك فهو يوافق على استخدام اقصى درجات العنف في ردع الانتفاضة وعلى كل الوسائل الاخرى التي تحطم الشعوب العربية جميعا وليس الشعب الفلسطيني وحده، ان الخوف هو الذي يحرك كل التداعيات التي تظهر على الحياة السياسية والاجتماعية في اسرائيل ولم يفكر الا القليلون في ان الامان والسلام ممكن ان يتحققا بطرق اخرى غير العنف المرتعد.

ولذلك ليس مهما ان يأتي الى الحكم حزب العمل أو الليكود فكلاهما تحكمه عقدة الخوف ويصعب على الجميع في الاحزاب الاخرى تصور ان السلام ممكن، وسبب ذلك الاحساس الكامن بأن الوجود الاسرائيلي لم يزل يفتقد الى الشرعية من وجهة نظر كثيرين حتى خارج الدائرة العربية والاسلامية.

والواقع ان المشروع الصهيوني ـ الذي تم تأسيسه على مفاهيم كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر ـ مشروع فاشل من الاساس، وقد استخدمته القوى الكبرى اكثر مما استخدمته الحركة الصهيونية، وجاء قيام الدولة الاسرائيلية وزرعها في المنطقة مناسبا للاهداف الاستعمارية التي كانت تخشى تطلعات دول المنطقة الى الاستقلال والتماس اسباب القوة من خلال طاقات يعرفها الاستعماريون اكثر من غيرهم. كانت منطقة الشرق الاوسط، ومازالت، تشكل اهم شبكات الطرق التي تربط اجزاء كثيرة من العالم، وكانت قبل كل ذلك مخزن الطاقة الهائل التي تعيش عليها الحضارة المعاصرة، وزرع الدولة الاسرائيلية كفيل بانهاك دول المنطقة ووضعها في قبضة القوى الكبرى، وهكذا يبدو ان الدولة الاسرائيلية وبملايينها الاربعة أو الخمسة ليست الا أداة ضغط في ظروف تاريخية معينة تقوم فيها الحضارة الحديثة على البترول باعتباره مصدر الطاقة الاساسي، ولذلك كان على الاسرائيليين ان يعيشوا الخوف والقلق ليؤمنوا مصالح قوى اولية اخرى تستخدمهم استخداما.

والوجود الاسرائيلي، مربوطاً بتلك المصالح العظمى، يستمد قوته العسكرية والتكنولوجية والسياسية من اصحاب تلك المصالح، وبالتالي فمن الصعب ان تتخذ أي حكومة اسرائيلية طريقا مخالفا لما تريده تلك القوى الكبرى.

وشعور الدولة الاسرائيلية بأنها مجرد اداة في ايدي القوى الكبرى يشعرها بالكثير من القلق، وقد كان بيجين يعبر عن هذا القلق بصرامة مزعومة عندما صاح مرة وهو يقاوم ضغطا امريكيا ان اسرائيل ليست من جمهوريات الموز، اشارة الى بعض جمهوريات امريكا اللاتينية التي كانت تديرها في الواقع الادارة الامريكية الشمالية، ويستطيع ارييل شارون ان يتوهم ذلك، وان يلعب في المساحة المتروكة له، ويظهر الكثير من «العنتريات» ولكنه في النهاية لا يستطيع ان يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها استراتيجية الدول الكبرى.

والمتغير الجديد في المنطقة هو ان معركة التحرير في المنطقة بصورتها بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهت، وحتى المشاريع القومية الكبرى مثل نشوء اتحاد عربي من دول المنطقة انتهى وكذلك المد الثقافي الوحدوي الذي غمر المنطقة وأتى بالكثير من الافكار الراديكالية، اليوم تنتشر رؤية جديدة بين شعوب المنطقة تستهدف التحديث والارتباط ـ الذي اصبح من الممكن ان يكون بلا تبعات مفروضة ـ بالعالم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، وفي الكثير من الدول العربية بدأت الديموقراطية لا كنظام حر فحسب، بل وسيلة موضوعية للتقدم والانتقال من القديم المتخلف الى العصر الحديث بكل انجازاته.

في مثل هذه الظروف التي بدأت الافكار الراديكالية والتي ازدهرت في خمسينيات القرن المنقضي في الانطفاء، وبالتالي الانظمة التي نشأت عنها والتي مازالت تحدث شيئا من القلق على المستوى العالمي، كل ذلك يمهد الطريق امام نوع جديد من الاندماج في نظام عالمي مازال يتشكل الى الآن بعد انتهاء الحرب الباردة.

ولعل من مزايا النظام العالمي الجديد، انه صار من الصعب ان تنفرد دولة بالسلطان المطلق على المجتمع الدولي، وقد رأى العالم كيف حاولت الولايات المتحدة ان تنفرد بالسلطة، وان تفرض رأيها على السياسة الدولية، ولكن هذا وجد الكثير من الصعوبات، ومازال العالم يعد بمتغيرات متعددة يظهر فيها عالم متعدد القوى، متوازن المصالح، ومن المرجح ان قوى كبرى جديدة سوف تشارك في العمل السياسي، ان هناك الكثير من الاحتمالات الايجابية فها هي ذي قوى مثل الصين تقترب من ان تكون ذات تأثير ايجابي وكذلك الامر بالنسبة لليابان وشبه القارة الهندية فضلا عن الاتحاد الاوروبي الذي يتجه حثيثا الى ان يكون قوى موازية للولايات المتحدة، وربما متوازنة معها، دعك من محاولات التكتل والاندماج التي تقوم بها دول العالم الثالث، والتي تحكمها ـ في الواقع ـ عوامل موضوعية في نظم العولمة الجديدة.

كل هذا يجعل وضع اسرائيل في السياسة العالمية مختلفا عما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية والى ما قبل الحرب الباردة.

ان تأمين الطاقة صار أوفر حظا، وكانت حرب الخليج اختبارا وانذارا وقد حاولت اسرائيل استخدامها لتثبيت دورها في المنطقة، ولكن هذا الدور تضاءل تماما اثناء اشتعال الحرب. الوضع الآن مختلف عن الظروف التي أوجبت زرع الدولة الاسرائيلية. ومهما تكن تأثيرات مجموعات المصالح اليهودية المؤيدة لدولة اسرائيل فان كل هذا محدود بحدود معينة من المستحيل تجاوزها احيانا.

حقا يوشك الدور الاسرائيلي في السياسة العالمية ان ينتهي ولكن احدا لن يرمي الاسرائيليين في البحر حتى العرب انفسهم، وكل ما تسعى اليه شعوب المنطقة هو سلام عادل وعلى اسس صحيحة حتى لا ينقلب الى انفجارات مسلحة بين وقت وآخر وهو ما أمر لا يتحمس له احد الا تجار السلاح.

ومهما تكن شراسة شارون أو الرعب الكامن في نفوس الاسرائيليين فان القوى الكبرى ليست مستعدة للدخول في مغامرات اخرى في منطقة الشرق الاوسط خاصة ان كانت لا ضرورة لها.

يستطيع ارييل شارون ان يهدد وان يقوم بأعمال عنف، وان يقتحم بيوت الناس ويقتل الاطفال والنساء باسم تحقيق أمن اسرائيل، ولكن ذلك لن يغير من الحقائق ومن الشروط الموضوعة للامن الاسرائيلي الذي لا يمكن ان يتحقق الا بالتراضي مع الفلسطينيين اصحاب الارض ومع الجيران.

ان شارون يزعم لنفسه انه ليس لعبة خشبية في ايدي القوى الكبرى، وبالتالي ليس رئيسا لوزراء جمهورية من جمهوريات الموز. ولعل من الافضل له وللشعب الاسرائيلي المؤمن بسلطان القوة والارهاب ان يدرك ان حرية البطش بالفلسطينيين أو غيرهم ليست مطلقة.