أبو حيّان التوحيدي.. أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء

TT

بداية: ترتبط قصة هذا الكتاب بفترة عصيبة مرّ بها المفكر أبو حيان التوحيدي وتخطاها بفضل ما قدمه له أحد أصدقائه المخلصين من عونٍ ساهم في ولادة هذا الكتاب. فقد عصفت الظروف بأبي حيان وتعرض إلى فقرٍ مزمن وحاجة إلى المال البسيط لمواصلة حياته الطبيعية المتّسمة بالزهد والتواضع، ولكنه وجد نفسه عبارة عن إنسان معزول لا يستطيع مقاومة الحاجة، فكتب لصديقه أبي الوفاء المهندس رسالة يطلب منه المعونة وأنه في حالة يرثى لها.

وكان هذا الصديق آنذاك أحد سمّار الوزير أبي عبد الله العارض، فتوسط لديه بضم أبي حيّان إلى ندوته التي كان يعقدها مع العلماء والأدباء، ولما وافق الوزير أصبح أبو حيان أحد سمّاره.

سامره نحو ثمان وثلاثين ليلة، وحينما انقضت اقترح عليه صديقه أبو الوفاء المهندس تسجيل تفاصيلها وما دار بينه وبين الوزير، وبذلك ظهرت هذه الجلسات على شكل كتابٍ حمل عنوان (الإمتاع والمؤانسة) وذلك في عام 374. أهمية الكتاب: (الإمتاع والمؤانسة) كتاب يصوّر تلك الليالي التي كان يسامر فيها التوحيدي الوزير ابن سعدان، وتكمن روعة الكتاب في قراءة تفاصيل الحوار الذي يدور بين الوزير وأبي حيان، ومن خلاله نستطيع أن نتلمس مستوى ذلك الإبداع ومنطلقاته وأجواءه، حيث يمتد السمر على عدد من الليالي، ويكون لكل ليلة فيها موضوع رئيسي يحدده الوزير من خلال سؤال يطرحه على أبي حيان التوحيدي، ويكون هذا السؤال فاتحة استطراد وتشعّب ومحاكاة طويلة ومتنوعة.

ففي الليلة الأولى: تناول أبو حيان متعة الحديث وخصائصه، إذ يقول:

«في المحادثة تلقيحٌ للعقول وترويحٌ للقلب وتسريحٌ للهم وتنقيحٌ للأدب».

كما جرى تناول تحديات لغوية كالفرق بين معنى كلمة (عتيق) ومعنى كلمة (قديم)، إضافة إلى معاني كلمات أخرى.

وفي الليلة الثانية: دار الحديث حول شخصيات بارزة في ميدان العلم والأدب، وصفهم أبو حيان للوزير، مثل (سليمان المنطقي)، الذي قال عنه:

«أما شيخنا أبو سليمان، فإنه أدقهم نظراً وأقعرهم غوصاً، وأصفاهم فكراً، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر». ومنهم ابن زرعة: «حسن الترجمة، صحيح النقل، جيد الوفاء بكل ما جلّ من الفلسفة».

ومنهم ابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه، الذي يصفه بأنه: «فقير بين أغنياء، وغني بين فقراء».

وقد طلب الوزير إلى أبي حيان أن يحدثه عن آراء هؤلاء العلماء في (النفس) فقال: «إنهم متفقون على أن النفس جوهرٌ خالدٌ».

وكان من أدق ما قاله كذلك في العلم بمسائل الحكمة: «انه وسط بين اليقين الكامل وبين اليأس من المعرفة». وكذلك قال في علم (الطب): «انه وسط بين الصواب والخطأ». وفي (الحياة): «انها وسط بين السلامة والعطب». وفرّق بين العلم والتعليم.

وفي الليلة الثالثة: كان قد دار الحديث حول بعض رجال السوء:

«فبهرام رجل مجوسي معجب ذميم، لا يعرف الوفاء ولا يرجع إلى حفاظ».

و«ابن كيخيا رجل نصراني أرعن خسيس، ما جاء يوما بخبر قط لا في رأي ولا في علم ولا في توسط».. وهكذا.

وفي الليلة الرابعة: تناول الحوار الوزير ابن عباد، حيث سأل ابن سعدون أبا حيان التوحيدي عن رأيه في ابن عباد وما يقال في ذمه أحياناً، فأجاب التوحيدي: «إن الرجل كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان».

«إنه يمدح نفسه بشعر ثم يعطيه لمن يلقيه كأنما هو شعر قيل فيه من سواه، فهو محب للثناء لدرجة الإسراف، وهو مزيج من عقل وحمق».

ويصفه بمرض النفس، فللنفس أمراض كأمراض البدن كما يقول.

في الليلة الخامسة: عاد الوزير وأبو حيان إلى موضوع ابن عبّاد، ثم أخذ الحديث بينهما مجراه ليصل إلى أبي اسحاق الصابي، حيث يقول عنه أبو حيان بأنه أحب الناس للطريقة المستقيمة التي يعيش بها، ولكن ما يؤخذ عليه هو قلّة نصيبه من النحو.

وفي الليلة السادسة: تناولت الموضوعات المطروحة خصائص الفرس والروم وغيرهما من الأمم، ومما قاله أبو حيان بهذا الصدد:

«ان الفرس تقتدي ولا تبتكر، والروم لا يحسنون إلا البناء والهندسة، والصين أصحاب صنعة لا فكر لها ولا روية، والترك سباع للهراش، والهند أصحاب وهم وشعوذة، أما العرب فقد علّمتهم العزلة التفكير، وساعدتهم بيئتهم على دقة الملاحظة، وهم ذوو قيم خلقية عليا».

وفي رأي أبي حيان، فإن الفضائل موزعة بين الأمم، وليس من الإنصاف أن نقارن أمة إبان صعودها بأخرى إبان هبوطها.

وفي الليلة السابعة: اشتمل الحوار على المقارنة بين علم الحساب والبلاغة وأيهما أنفع، أو أقل بين العلوم الرياضية وفنون الأدب، وقد كان هناك من فضّل الأولى على الثانية، لأن الأولى تنحو منحى الجد بينما الثانية فيها هزل.

وفي الليلة الثامنة: كان الحديث فيها يدور حول الفلسفة بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متّى بن يونس القنائي في حضرة الوزير ابن الفرات، الذي كان قد سأل مجالسيه ذات يوم: إن كان بينهم من يستطيع أن يتصدى لمناظرة أبي بشر متّى في المنطق، فإنه يقول:

«لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين إلا بالمنطق».

فاستجاب أبو سعيد السيرافي لدعوة الوزير ثم واجه متّى فقال:

«حدثني عن المنطق ما تعني به؟. فقال متى: أعني به آلة من آلات الكلام، يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان».

فقال أبو سعيد ردا على ذلك: «إن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل».

فيرد متى قائلا: «إن المنطق يعنى بالمعقولات، والناس في المعقولات سواء، فأربعة واربعة تساوي ثمانية عند اليونان وعند العرب وعند غيرهما من الأمم على السواء».

فيعود أبو سعيد إلى الكلام:

«إن التشبيه بأربعة وأربعة وأنها تساوي ثمانية عند كل الأمم هو تشبيه لا يؤدي لأن حقائق الرياضة بيّنة، على خلاف المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ، فكيف ندرس منطق اليونان دون لغتهم، فضلا عن أننا ننقل المنطق اليوناني عن اللغة السريانية، والمعاني إنما يصيبها التحول عند الترجمة من لغة إلى لغة أخرى، إن عقول الناس متفاوتة فكيف تزعم أن في وسع المنطق أن يسوي بينها جميعا».

وفي الليلة التاسعة: تناول أبو حيان الحديث عن أوصاف دقيقة لأنواع الحيوان وما يتميز به، وكيف ان بعض صفات الحيوان موجود مثلها في الإنسان، ففي الإنسان تجتمع كل صفات الحيوانات وليس العكس.

وفي الليلتين العاشرة والحادية عشرة: تم التواصل في موضوع الحيوان، فقُرئ بحث عن خصائص الحيوان وكل ما يتصل بطباعه.

وفي الليلة الثالثة عشرة: كان البحث فلسفيا يتناول النفس، فهي لا تفسد بفساد البدن، وهي جوهر لا مادي وغير قابل للمقاييس الكمية. في الليلة الرابعة عشرة: يتحدث أبو حيان عن السكينة وأنواعها، فهناك سكينة طبيعية وأخرى نفسية، وثالثة عقلية ورابعة إلهية، ثم ينتقل الحديث في ما تشترك فيه الأمم من خصائص، فكلها مشترك في الفطرة الواحدة، وتأتي بعدها أوجه الخلاف. في الليلة الخامسة عشرة: جرى حديث فلسفي عن (الممكن) و(الواجب) فقال أبو حيان عن الممكن:

«الممكن شبيه بالرؤيا لا بد أن يستقل به، ولا طبيعة يتحيز فيها، وكما أن الرؤيا ظل من ظلال اليقظة، والظل ينقص ويزيد إذا قيس إلى الشخص». «والواجب (ويقصد به في المصطلح الفلسفي ما هو ضروري الوجود)، لا عرض له، لأنه حدّ واحد».

أما في الليلة السادسة عشرة: فقد جرى حديث عن الجبر والقدر، تعليقا على كتاب العامري المعنون (إنقاذ البشر من الجبر والقدر)، وبهذه الليلة انتهى الجزء الأول من الكتاب.