صناعة التوافق وعودة الأيديولوجيا في الغرب: الحالة الألمانية نموذجا

TT

أمضيت الفترة الماضية في العاصمة الألمانية برلين متابعاً لنقاشات نخبتها السياسية والثقافية حول عدد من الموضوعات الساخنة شديدة التنوع، بدءاً من الانتخابات الرئاسية في أمريكا وانعكاسات نتائجها المحتملة على العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية، ومروراً بمستقبل الأوضاع في العراق، وانتهاء بإشكاليات توسع الاتحاد الأوروبي ومعضلة العضوية التركية. إلا أن النقاش الأكثر مركزية في الفضاء العام الألماني تمثل وما زال فيما أصبح يطلق عليه بأزمة إصلاح دولة الرفاه.

والحقيقة أن شعار الإصلاح يبدو في اللحظة الراهنة على درجة من الغموض تسمح باستخدامه على نطاق عالمي كيافطة لمشاريع سياسية ذات مضامين متعددة، لا يجمعها خيط ناظم، تحول رأسمالي في الصين ونقيض له في البرازيل وثالث ديموقراطي نبحث عنه في عالمنا العربي ـ الإسلامي. وفي هذا السياق تتحدث الديموقراطيات الليبرالية في الغرب عن إصلاح ترمي منه إلى عصرنة بناها الاقتصادية والاجتماعية، على نحو يتناسب مع تحديات رأسمالية القرن الحادي والعشرين الباحثة بلا هوادة، ليس فقط عن أسواق جديدة، بل أيضاً عن عمالة رخيصة والمتحللة من سالف اعتمادها على الدولة القومية، وتنازلاتها المجتمعية التي قدمتها تاريخياً في هذا الإطار. وعلى صعيد ثان، وعلى الرغم من المقولة الرائجة في أوروبا منذ انهيار المعسكر الاشتراكي في نهاية الثمانينات، حول نهاية الأيديولوجيا، وتلاشي الاختلافات المذهبية بين خطابات وبرامج اليمين واليسار والقوى السياسية المعبرة عنها، إلا أن الصراع الدائر حالياً حول إصلاح دولة الرفاه، وهو غير قاصر على الحالة الألمانية وحدها، يعيد الأيديولوجيا إلى موقع القلب من نقاشات الفضاء العام في أوروبا. والحقيقة أن تسعينيات القرن الماضي، وبغض النظر عن الادعاء السطحي بانتصار تاريخي مزعوم لليبرالية يمينية أمريكية الطابع، على ماركسية ابتذلتها تجارب الاشتراكية الواقعية في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية، قد شهدت ولا شك تراجعاً ملحوظاً لدور أيديولوجيات القرن التاسع عشر الكليانية، في صياغة أولويات وتوجهات السياسة في أوروبا نهاية القرن العشرين. إلا أن هذا التحول في الخريطة السياسية الأوروبية، لم يرتب بأي حال من الأحوال اختفاء الأيديولوجيا تماماً، بل ما زالت الأخيرة في واقع الأمر حية ترزق، تحت مسميات متنوعة من شاكلة الليبرالية الجديدة والطريق الثالث أو اليسار الجديد.

فما الذي يحدث إذن في ألمانيا الدولة الأكبر سكانياً، والأهم اقتصادياً في الاتحاد الأوروبي، والتي يعود بها تاريخ بدء نظم الرفاه إلى حكم المستشار بسمارك في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. خبرت ألمانيا في السنوات الماضية، وعلى الرغم من أنها كانت المستفيد الأول سياسياً من نهاية الحرب الباردة، حيث أنجزت وحدتها وتصاعدت أهميتها الجيوستراتيجية مع استعادتها لمجالات الفعل الخارجي في وسط وشرق القارة الأوروبية، تراجعاً ملحوظاً في معدلات النمو ومستويات تشغيل العمالة تجاوزت معها نسبة البطالة حاجز الـ10%. ولم تكن التكاليف الباهظة للوحدة الألمانية وإشكاليات الدمج الاقتصادي والاجتماعي للولايات الجديدة في الجزء الشرقي المسببات الوحيدة لذلك، بل في المقام الأول عجز النخبة السياسية عن بدء عملية إصلاح جذرية كانت قد أضحت أكثر من ضرورية.

وقد ورث الحزب الاشتراكي الديموقراطي هذه التركة الثقيلة مع عودته في عام 1998، وبعد انقطاع دام ما يقرب من العقدين إلى موقع الحكم، وشكل المستشار جيرهارد شرودر ائتلافاً يسارياً مع حزب الخضر متبنياً في البداية أجندة إصلاحية قريبة من السياسات الليبرالية المعاصرة لحزب العمال البريطاني. لكن، وعلى خلاف نجاحات توني بلير المتتالية، رتبت محاولات حكومة شرودر تغيير بعض القوانين المنظمة لسوق العمل، مثل تلك المتعلقة بالحد الأدنى للأجور وحماية العمال من الطرد التعسفي، وطرح رؤى أولية حول حتمية تغيير نظم المعاشات والرعاية الصحية، خاصة مع الشيخوخة المتصاعدة للهرم السكاني (60% من الألمان تزيد أعمارهم على الخمسين)، توترات غير مسبوقة، فيما عاد شبح اليمين الراديكالي العنصري ليطل من جديد على الحياة السياسية في سياق أيديولوجيا شعبوية توظف مخاوف المواطنين خاصة في الجزء الشرقي، لخدمة أهدافها وتعبئ قطاعات واسعة منهم ضد وجود الأقليات الأجنبية، الإسلامية بالأساس، على نحو مكن عددا غير قليل من هذه الأحزاب من دخول برلمانات الولايات هناك. أما ما هو أكثر مرارة من ذلك، فكان استغلال الأحزاب المسيحية الديموقراطية لذات المخاوف، لتحقيق مكاسب سياسية سريعة على أرضية رؤية رجعية، تعد أغلبية المجتمع بما لا تقدر عليه، أي الحفاظ على نظم الرفاه القائمة دون تبديل أو اختزال. ورتبت عدم قدرة الائتلاف الحاكم من الاشتراكيين الديموقراطيين والخضر على صياغة تصور بديل للتوافق المجتمعي على التراجع المطرد لشعبيته. فلم يكن كافياً الحديث عن حتمية الإصلاح دون تفعيل نقاش عام حقيقي حول مضامينه، أو مجرد اتباع منهج قرارات اللجان الحكومية المغلقة للشروع في تنفيذ البرامج الإصلاحية، بعيداً عن صخب البرلمان المعادي.

والى ذلك عوقب شرودر وحزبه في فترة حكمه الأولى بين 1998 و2002 بقوة، فخسر معظم انتخابات الولايات الاتحادية وفقد بالتبعية إلى حد بعيد قدرته على الفعل، ولم ينقذه من خطر الإطاحة سوى موقفه الرافض للحرب الأمريكية ـ البريطانية على العراق فمددت له أغلبية بسيطة في انتخابات 2002 البرلمانية لأعوام أربعة إضافية.

يبدو شرودر في العامين الماضيين مدركاً من جهة لمخاطر الإخفاق في صناعة توافق مجتمعي داعم للإصلاح، ومن جهة ثانية لحقيقة عودة الأيديولوجيا إلى مجمل الفضاء العام الألماني وإلى المجال السياسي تحديداً. وكما يقول المثل الألماني «يكافح وظهره إلى الحائط»، تمكن المستشار من تفعيل الميكانزمات التوافقية خاصة البرلمانية والنقابية من جديد، ومن إثارة نقاش عام حول مضامين الإصلاح الرئيسية; العدالة الاجتماعية والقدرة التنافسية للاقتصاد الألماني والحد من أزمة البطالة ، فيما تواكب ذلك مع بدء التطبيق الواقعي لبرامج إصلاحية تخدم هذه الأهداف، شملت إعادة تنظيم سوق العمل وسياسات التشغيل وقواعد المعاشات والرعاية الصحية وغيرها، على نحو يوحي بقرب نهاية فترة الجمود الطويلة في ألمانيا الثمانينيات والتسعينيات. ويخطئ من يظن أن الجوهر الوحيد لهذه الخطوات إنما يتمثل في تراجع الدولة وتخليها عن مسؤولياتها تجاه المجتمع، أو بعبارة أخرى اتباع أعمى للاهوت الليبرالية الجديدة. فواقع الأمر أن حكومة شرودر تصوغ سياسة متوازنة بين مقتضيات تحرير اقتصاد السوق من قيود فرضتها الدولة عليه في فترات سابقة، ولم تعد تتلاءم بالفعل مع المرحلة الراهنة للرأسمالية المعولمة، وبين متطلبات الحفاظ على خصوصية النموذج الألماني، المستند إلى معدلات مرتفعة نسبياً من العدالة التوزيعية تقتضي تحديثه باستمرار. وتكشف تجربة شرودر السياسية عن عدد من الدروس الهامة في باب الإصلاح. فالأخير يقتضي ولا ريب في المقام الأول صناعة توافق حول محاوره الأساسية اعتماداً على آليات شرعية، برلمانية وغير برلمانية، تضمن وجود تحالف مجتمعي مدرك لضرورته ومؤيد لبرامج تنفيذه الفعلية. ويتمثل الدرس الثاني في محورية تفعيل نقاش عام جدي حول الإصلاح وقيام القوى الرئيسية في المجتمع المعني بصياغة خطابات سياسية ذات تفضيلات أو انحيازات أيديولوجية واضحة، لا تقبل التمييع من خلال عبارات كالطريق الثالث أو الوسطية أو غيرها من اليافطات التي تكاد تختفي تماماً الآن من الخريطة السياسية لأوروبا مع إعادة اكتشاف الأيديولوجيا.

* خبير دراسات الشرق الأوسط بمركز كارينجي للسلام العالمي في واشنطن

[email protected]