هل نجح العنف «الجهادي» في معاقبة أميركا؟

TT

ثمة اعتقاد تسلل ويتسلل الى نفس وعقل المتأسلمين وغير المتأسلمين في العالم العربي: ما دمنا عاجزين عن استعمال القوة، فلندع المتأسلمين «الجهاديين» والانتحاريين يستخدمون العنف مع عالم ظالم للعرب وللمسلمين.

مع الاستسلام لمبدأ العنف والانتقام، يكاد العقل العربي يفقد القدرة على مناقشة أوهامه وتصوراته المبنية على مرارته واحساسه العميق بالظلم والضعف. لكن ثمة سؤالاً مختصراً في غاية البساطة:

هل أدى العنف «الجهادي» ضد المدنيين الى معاقبة أميركا وردع اسرائيل؟

عندما نطرح السؤال بهذه المباشرة والبساطة، يعجز العقل المستسلم لثقافة العنف عن تقديم جواب مقنع، لأن التجربة الميدانية لا يمكن دحضها بفذلكة الانكار. عنف 11 سبتمبر في نيويورك أدى الى احتلال افغانستان والعراق. عنف العمليات «الجهادية» ضد المجتمع الاسرائيلي أدى الى استخدام القوة الهمجية المتفوقة، لتدمير البنى الاساسية للمجتمع الفلسطيني واختراق الضفة وغزة بمزيد من الحواجز والاسوار والاستيطان، بحيث بات مستحيلا اقامة دولة فلسطينية حقيقية تملك مقومات الحياة.

ظهر ابن لادن على الشاشة بـ «ماكياج» جديد. اختفى الوجه «البوذي» بلحيته الدودية المفتولة والوجنتين الغائرتين. وحل محله وجه ممتلئ ولحية عريضة، وعمامة تنافس عمائم مشايخنا الأجلاء من نجوم التلفزيون، كأن الرجل بصوت المريض الواهن يقول لنا انه هو المنظر والمفكر وليس وكيله الدكتور الظواهري.

لا جديد عند مفتي «القاعدة» الجديد. ما زالت الثوابت العصفورية في ثقافة العنف هي هي، يقول: «لقد انقدح في ذهني» ابلاغ الاميركيين بأنهم «يهددون أمننا فمن حقنا ان نهدد أمنهم». لكن قتل المدنيين لا يهدد أمن النظام الذي انتخبوه ليحكمهم. والاميركي الذي مات في 11 سبتمبر يقابله عشرون اميركيا يموتون سنويا في حوادث السيارات والطائرات.

في الواقع، هدد العنف الجهادي أمننا نحن العرب. الزرقاوي الذي بايع ابن لادن على الخلافة «القاعدية» قتل هو واضرابه وما زالوا يقتلون من العراقيين المؤمنين أكثر مما يقتلون من «الكفار» الاميركيين. وقدموا «الجهاد» الى العالم بهذه الوحشية في قطع الاعناق التي تحاكي وحشية القصف والاحتلال. المؤسف ان الاعلام العربي يساهم في نشر وتوزيع مشاهد القتل كسبا لنصر خبري. بل الفضيحة الاعلامية مدوية، عندما نعرف ان مصوري التلفزيون هم الذين يستدعيهم جزارو «الجهاد» لالتقاط مشهد عملية القتل والذبح.

«تنقدح» في الفكر «الجهادي» نظرية استعداء الغرب باستفزازه بالعنف، واستدراجه الى «ديار الاسلام» لحسم الصراع معه. حقا، يتم استدراج رئيس اميركي اخرق الى العراق، حيث يتم «قدح» قواته ليل نهار. لكن هل يستدعي ذلك التضحية بأمن العراق الوطني والقومي، وبُناه الاساسية والنفطية وحياة خمسين ألف عراقي، لقتل ألف أميركي ليس بينهم بوش أو رامسفيلد واحد؟

تاريخيا، تم «قدح» الصليبيين في ديار العرب، بعد كر وفر استغرق نحو ثلاثة قرون، تم خلالها تدمير الحضارة العربية وبناها الحياتية في صراع الاديان والثقافات والحضارات في القرون الوسيطة، فتأخر العرب اقتصادا وثقافة ولغة وتقنية ستة قرون، وقبلوا منهكين ومستنزفين بخلافة دينية أجنبية استعمرتهم أربعة قرون (1516 ـ 1916).

في الفكر «الجهادي» الشيعي والسني المعاصر، لا بد من تجسيد تكفير الغرب في شخص يحاكي إبليس، ليسهل تجنيد العوام ضده. كان ريغان ابليس الشيعة، وورث بوش الاول والثاني مكانته ابليسا عند السنة لكن الدين منظومة مبادئ اجتماعية واخلاقية. الدين، أي دين، لا يصلح للتعامل مع العالم على اساس فرز القلة من «المؤمنين» عن الغالبية الساحقة من «كفار»، يتم استعداؤهم بالزندقة والتكفير، واستفزازهم واحياء غرائزهم التعصبية ضد عالم اسلامي ضعيف ومفكك الاوصال، وما من سبيل الى وحدته، لأن لغاته وذاكرته وأعراقه وحضاراته كانت كما دلت التجربة التاريخية والمعاصرة (افغانستان والصومال مثلا) أقوى من إيمانه.

صوَّت ابن لادن لبوش في الساعة الخطأ، ليثير مخاوف الاميركيين، تماما كما قاتل من قبل في الارض الخطأ، والعدو الخطأ، والهدف الخطأ. ثم يمارس خداع العرب عندما يزعم ان نسف الابراج جاش في عواطفه وانقدح في ذهنه منذ اجتياح لبنان في عام 1982، اين كان هو في ذلك الحين؟ كان ابن لادن يتدرب على العنف والقتل في معسكرات المخابرات الاميركية!

اننا ندمن ثقافة العنف، ونستسلم لثقافة الانتحار والموت، ندمن الحزن والاحباط والتشنج. تختلط الأمور أمامنا. يتجاهل الفكر «الجهادي» في انغلاقه وعدائيته عالما يريد ان ينتقم من مدنيين، فيما المتغيرات تجتاح فكرهم وسلوكهم: حقوق الانسان، رفض الاستعباد والمغامرة العسكرية، التعاطف مع العرب في فلسطين والعراق. استقبال وايواء الملايين منهم ومن المسلمين.

بات الفرز الجهادي يقسم حتى العرب والمسلمين الى صالحين وطالحين. تسميات اعجمية غريبة عن روح المساواة في الاسلام، تسميات تستثني «الاخوان» من المؤمنين، وتفصل «حزب الله» عن احزاب «الزَقّْوم» و«جيش المهدي» عن «جند محمد»..!

هناك ادمان هائل للطقوس والشعائر، في ترداد تلفزيوني رتيب لأوصاف الجلالة والنبوة، من دون إعمال العقل والفكر في الدين. ما زال الدين فعل ايمان مكتسب بالولادة والفطرة والوراثة، كأنهم لا يريدونه حافزا على اعتناق ثقافة دينية اصعب واعمق.

لا يمكن فهم العالم واقناع الرأي العام العالمي من خلال الاطلالة عليهما من مخبأ في مغارة او خرابة. من المعيب على العقل العربي ان تخالجه هواجس ثقافة العنف، ظنا ووهما انها باتت وحدها قادرة على تأديب أميركا وقمع اسرائيل، ثم القبول بكل ما تحمله من افكار جامدة ومتخلفة، وكأننا نفعل ذلك بأنفسنا وعقلنا نكاية ببوش وأميركا وإنكارا لعالم نحسب اننا يمكن ان نعيش في عزلة وانفصال عنه، نشتري سلعه ونستقبل تقنيته ونرفض فكره.

رهان العرب يجب ان يكون على ثقافة العلم والمعرفة. لا حياء في الدين، لا بد من التفاعل والاخذ والعطاء مع ثقافات العالم وافكاره. لقد ارسى الاسلام مبدأ الشورى. تطعيم الشورى بالفكر السياسي العالمي عن الحرية ليس كفرا كما يزعم ابن لادن والفكر الجهادي. الحاكمية لا تترك مجالا للحوار وللشورى، لأنها تخول السلطان ان يتكلم ويحكم وحده باسم الله، ويفسر وحده الاحكام القرآنية.

كانت الشورى مُغَيَّبة في الدولة الاسلامية التاريخية، لكن الدول الاسلامية المعاصرة لم تستطع تجاهل البناء الهيكلي للدولة الغربية. باتت هناك سلطات منفصلة تنفيذية وتشريعية وقضائية، وإن كان هذا الفصل لم يمنع، بعد، سطوة السلطة التنفيذية، ولم يصل الى ارساء استقلالية المؤسسات عن بعضها بعضا، ضمانا للعدل والمحاسبة والرقابة وتأمينا للمساواة بين الحاكمين والمحكومين.

عندما يكفّر ابن لادن والفكر «الجهادي» الديمقراطية الغربية، فهو في الواقع يكفر الشورى الاسلامية، فكلاهما متصل فكريا ونظريا وتطبيقا بالآخر. المشكلة ان المتأسلمين التقليديين لا يردّون، خوفا من اعترافهم بان الشورى هي الديمقراطية! والمشكلة اكبر عندما لا يرد الفكر السياسي العربي. غدا المثقفون السياسيون من مستقلين وحزبيين وقوميين وماركسيين، يُدارون المتأسلمين وصولا إلى الامتناع عن مناقشة الفكر «الجهادي» في فهمه السياسي للإسلام وللأديان وللفكر الإنساني، وذلك خوفا من اتهامهم بالكفر والعلمانية.

نعم، نجح العنف «الجهادي» في إثارة اهتمام الغرب بالاسلام. تصدر عشرات الكتب ومئات الدراسات والبحوث، وتعقد ندوات الحوار لمناقشة «الصحوة» الاسلامية، لكن العنف «الجهادي» يترك بصماته السلبية على هذا الاهتمام، ويثير عداء المجتمعات الغربية للجاليات الإسلامية. بل هو يستغل الحريات السياسية والاجتماعية في هذه البلدان، ليحرض الجيل الإسلامي الجديد في الغرب على استخدام العنف والإرهاب ضد المجتمعات «الكافرة» التي تؤويه.