العراق .. اختلاف وائتلاف .. وبينهما فتوى

TT

لم يكن بيان الإسلاميين الـ 26 السعوديين الأخير حول العراق إلا كما قال المثل: «ذهبوا إلى الحج والناس عائدون». خلاصة واحدة خرجت بها من هذا البيان (او نقول الفتوى!)، هي: الإسهام في إدامة الازمة العراقية، ومن ثم تصديرها وتدوير مخرجاتها من جديد في مكان آخر، تستطيعون القول انه سيناريو «افغان عرب جدد».

البيان كان ملغوما من بدايته، من رؤيته الدينية المحضة لأزمة سياسية بحتة.

لقد نزع موقعو البيان الطابع السياسي عن المشكلة العراقية الحالية، وصعدوا بها الى مستوى الصراع الديني المستعصي على الحل... والخالد.

كيف وهو ليس الا فصلا من فصول الصراع، بين جند الله وجند الشيطان، او بلغة بن لادن التراثية، فسطاط الايمان وفساط الكفر.

حقا، هل كان البيان منطبقا على كل جزئيات المشهد العراقي؟ اين الكرد من المساحة التنظيرية التي غطاها بيان الاسلاميين السعوديين؟ الكرد الذين لا يرون لهم مصلحة في إفساد الصيغة الجديدة في العراق، وهم مسلمون و سنة ايضا، لكن لم يشاركوا ابدا في هذه المقاومة، وساهموا مع الاعمال الحكومية في إخمادها.

ثم أين الشيعة الذين لزموا الحياد (الإيجابي)، وها هم اليوم متحسمون للانتخابات وتحقيق حضورهم السياسي، من خلال الدخول بلائحة شيعية موحدة، حسب إشارة المرجع السيستاني، هذا هو الموقف الشيعي العراقي الذي يكاد يشبه الاجماع، وان بدا مقتدى الصدر، في لحظة ما، نغما ناشزا في هذه الاوركسترا، لكنه عاد الى السرب، وانسجم مع حركة المجموع الضخم الذي يسعى الى تحقيق مصالحه في هذه اللحظة من التاريخ..

بل انني اذهب ابعد من ذلك واقول: هل بمقدرونا الحديث عن موقف سني عراقي موحد، ازاء خيار المقاومة ذات الطراز «الفلوجي»؟

ألم يكن الحزب الاسلامي، أكبر فصيل سني، قد دخل ووافق، ونشط ضمن الصيغة الجديدة، من خلال ممثله السيد محسن عبد الحميد، وحتى هيئة علماء المسلمين، التي تبدو مساندة لفصائل المقاومة الاصولية السنية، حتى هذه الهيئة، لم توقع شيكا على بياض لمجموعات المقاومة، لقد كانت هناك محطات ومفاصل تصادمت فيها هيئة علماء المسلمين، مع بعض مفردات هذه المقاومة، خصوصا في نسختها الزرقاوية.

فمثلا، أدانت هيئة علماء المسلمين تفجيرات الكنائس في بغداد، وأكدت استنكارها الشديد للاعتداءات، وثمنت موقف الطوائف المسيحية التي استنكرت انتهاك حرمة المساجد السنية، وكان وفد المسيحيين الذي اجتمع بهيئة علماء المسلمين السنة، مكونا من بطريرك الكلدان في العالم عمانوئيل الثالث دلي، وأساقفة عن الكنائس الاشورية والسريانية والارمنية والارثوذكسية والكاثوليكية.

هذا الموقف، بطبيعة الحال، لا يتطابق مع فكر مقاومي الزرقاوي، الذين يريدون اجتثاث (الكفر) وأهله من العراق.

كذلك فإن رئيس هذه الهيئة وصقرها المتشدد حارث الضاري، دعا الى الوحدة الشيعية السنية، وهذا ما يتعارض مع موقف اصوليي الفلوجة، الذين افتخر مفتيهم المقتول ابو انس الشامي، بانطلاق عملية اغتيال محمد باقر الحكيم من معاقلهم هناك.

كما أن محمد بشار الفيضي، المتحدث باسم هيئة علماء المسلمين، ذكر صراحة انهم يوافقون على الدخول في الانتخابات العراقية، لكن لهم شروطا للدخول. اذن هناك لغة سياسية تفاوضية، تطلب وتشترط وتوافق هنا وترفض هناك ...

جاء هذا في ظل نجاح الشيعة في تكوين لائحة موحدة، والدخول صفا واحدا للانتخابات، الامر الذي جعل الحزب الاسلامي العراقي السني، بزعامة الدكتور محسن عبد الحميد، والذي يعد اكبر الاحزاب الدينية التي تمثل السنة في العراق، يقلق ويبحث عن حل. وبحسب مصادر عراقية، فإن الحزب الاسلامي العراقي وهيئة علماء المسلمين، ينسقان بشأن الانتخابات والاتفاق على قائمة للدخول فيها، حيث يمكن للطرفين تحقيق مكاسب كبيرة في الانتخابات المقبلة.

في السياق نفسه، أجرى مبعوث الامم المتحدة، أشرف قاضي، اتصالات مع الهيئة لمعرفة موقفها بشكل واضح، واعلن المتحدث باسم الهيئة الشيخ محمد بشار الفيضي، أن المشاركة في الانتخابات جزء من قضايا تم بحثها واستمع كل طرف للآخر.

وحتى داخل المقاومة السنية نفسها، هناك تباينات في الاساليب والغايات ، فكتائب ثورة العشرين، تتبنى لغة دينية مشوبة بنفس وطني يرفض الطائفية، عكس مقاومة الزرقاوي التي قال مفتيها الشامي (حسبما شرحنا في مقال سابق) انهم ضد فكرة الوطنية (الوثنية)، فهم مع الاسلام الكبير الذي يعبر الحدود المصطنعة، والهويات الوطنية الجاهلية، ونفس هذا الانقسام، موجود داخل هذه المجموعات فيما يخص الموقف من صدام حسين، فهل هو قائد وطني، ام هو بعثي كافر، ام هو رئيس خائن...؟

انها اختلافات حقيقية وليست سطحية، وكل من هذه المجموعات لو تمكن من الامر في العراق، فسيقود المستقبل باتجاه ما تمليه عليه نظرته.

وبعد، فعن اي مقاومة من هذه المقاومات يتحدث بيان الـ26 من اسلاميي السعودية في فقرته الرابعة التي تقول: « ولا يجوز لمسلم أن يؤذي أحداً من رجال المقاومة، ولا أن يدل عليهم، فضلاً عن أن يؤذي أحداً من أهلهم وأبنائهم، بل تجب نصرتهم وحمايتهم»!.

فهل سأل هؤلاء الموقعون انفسهم فيما لو تصالح سنة العراق مع الحكم الجديد، وأُعطوا حصتهم الملائمة من الحكم، ورحلت القوات الامريكية التي لن تخلد وجودها هناك، فالناخب الامريكي لا يريد ان «يطول» ذلك الوجود. ماذا لو تصالح الحكم العراقي مع السنة، وخرج لنا حارث الضاري او الفيضي او الكبيسي وهو يدعو للهدوء والكف عن الفتنة، ويحث على اعمار العراق الخ..

حينها، الى اين سيذهب شباب السعودية، وغير السعودية، الذين يتدفقون الآن؟ بعد أن يكونوا قد ضحوا بالنفوس واصيبوا بالجراح المستديمة، والأخطر من ذلك، بعد ان يكونوا قد ادمنوا الفعل العسكري ورائحة البارود وتشبعوا بثقافة الموت؟

سيعودون، ويرجعون بالبلد والمجتمع الى الوراء أكثر فأكثر، ثم ان هناك تناغما اصوليا وتوأمة فكرية بين «جهاد» المتطرفين في السعودية، وجهاد اشقائهم في العراق، فهذا احد اعضاء القاعدة في السعودية، يصرح بصوته في بيان أذاعه الاعلام قبل ايام ، ان من لم يستطع اللحاق بهم، فلينضم الى «اخواننا المجاهدين في العراق».

هل يعي موقعو البيان مدى الضرر الذي تسببوا به؟ ثم هل كانوا يخاطبون ببيانهم هذا كل أطياف الشعب العراقي التي من المستحيل سبكها في قالب هؤلاء الاسلاميين بمرجعايتهم وفكرهم، ام كانوا يخاطبون نظراءهم هناك؟

يبدو ان نفس الذهنية التي تعاطت من منظور حزبوي عصَبي بحت، مع قضايا افغانستان والشيشان وحرب اليمن، ولنتذكر هنا خطابات بعض الاسلاميين لدينا، التي ادلت بدلوها في حرب الوحدة اليمنية، وكانت تريدها حربا دينية لا سياسية. يبدو أن هذه العقلية هي نفسها التي تتعاطى الآن مع احداث العراق .

مزايدة على أهل الدار، واذابة لكل الخصوصيات والسياقات الخاصة لكل قضية وحالة، وخلطها في (طنجرة) العقيدة المتعالية.

ذهنية تعجن كل الملامح الفارقة بين القضايا، لتتشكل على هيئة وجه واحد، وجه الهدى والضلال، والوعد الحق والوعد المفترى ... نفس الكلام يقال في كل قضية ومفصل ... ألا يرون أنهم في كل عام يفتنون مرة او مرتين ثم لا يذكرون؟!

اننا نحزن ونتألم للضحايا الابرياء الذين يسقطون في الفلوجة، او سقطوا في بغداد او النجف .

كما في كل حرب، هؤلاء الابرياء هم اول من يدفع الثمن في حرب لم يصنعوها، من أجل ذلك حان وقت اطفاء الحريق.

[email protected]