لماذا لا يقبل البشر الانسحاق..؟

TT

بعد ترجمة فورية استطعت أن أفهم من أخبار الصحف بعض ما يمكن أن أفرح به فرحا مخضلا بالمحنة، رغم حصار مبدعي الدمامة الذين لا يقف أمام طموحهم شيء.

إنهم لا يريدون لملامح الوجه أن تظل كما خلقها الله، عينين وأنفا وشفتين، فالمحاولات مستمرة لكي نصبح بعين واحدة مغمضة في القفا، وثلاثة أنوف مرغمة موزعة بين الجبين والقدمين، على أن تطمس الشفاه ونكتفي بأن نحقن بالطعام مخدرات لتعويم العقل علي الترهات والوعي على الأكاذيب، ويكون الصدر أعشاشا لزنابير تطن بالرطانات وخلط الأمور. الجهد دائم «لدلق» الطحين على الاسمنت علي سم الفئران لخبز كعكة مشؤومة للآكلين من أجل أن نرى الحق باطلا والباطل حقا، لكن، رغم كل هذا، لا يزال هناك لا يزال...

مثل مكعب الحديد المصمت يشق الرئتين فلا أتنفس: هذه هي الكآبة، أما الإكتئاب، فهو أشبه بالشجن الذي يختمر في بؤرته الشعر ونسميه أحيانا الوميض. أما حكاية الشوق إلى الجمال، فهي حكاية التوق إلى الحق والخير والعدل، وأظن الأمر كله يكمن في الحرية، وحتى لا نحتار بين المدلولات المبتذلة، أركز المعنى في حرية القول دفاعا عن كرامة الانسان. أفر إلى الله من الزور والبهتان والزيف ومن صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه. الهرب من «الكذب» الذي هو نقيض «الحق» ونقيض «الجمال»، والذي لا يترعرع معه خير أو عدل، فكيف بالله يكون الحال حين نرى الدمامة، «الكذب»، تقف في جرأة تنسج بالوهم وخيوط العنكبوت منهجا يزعم الدفاع عن الحق والدعوة إلى الخير والبكاء في مأتم العدل؟

هل يجتمع قبح وجمال؟ إذا اجتمعا لا يكون الجمال جمالا!

أواه يا ليل، طال بي سأمي، وساءلتني النجوم، عن شغبي!

تقول أميركا لمقاوميها وهي تقصفهم: من الغريب أنكم تتحدثون بكل هذه العصبية، لماذا لا أقهركم ونظل أصدقاء؟

لقد صفت روحي واغتسل قلبي ولم أستسلم للحقد مثلكم، لقد قتلت منكم من قتلت، ولكني تسامحت ونسيت ذلك تماما، فلماذا لا تحاولون أنتم نسيان جرائمي كذلك؟

آه لو تسامح البشر ونسي المقتول طعنة القاتل، كما نسي القاتل طعنه للمقتول، لكن: هكذا القتلى، إنهم علي مر التاريخ ذاتيون، حقودون، لا ينسون الطعنات، وهم لذلك سبب شقاء هذا العالم الذي لن يعرف السلام أبدا إلا بإبادة المقاومين الذين يتسببون في كل هذا الإنفلات الأمني! ويصرخ هولاكو من وراء ركام التاريخ: طامة كبرى: فلا يمكن للشهيد أن يحدد نسله..!

يطل وجه من بين ظهرانينا، منمنم، أبيض مستدير، يبدو لوهلة طيبا كأنه سيدة، لا بها ولا عليها، تجلس في شرفتها تطحن بن قهوتها مع الحبهان في مطحنتها النحاسية الصغيرة، ولذلك تكون المفاجأة اكتشاف أنه سفاح: فمن الكتابة ما قتل..!

أما الذي احتكر الكلام لسنوات ولا يزال يتكلم، فعليه أن يدرك أنه لم يحتكر الانتهازية، بقليل من السماحة، وبالتعود، سوف يتمكن من رؤية آخرين إلى جواره، فالأرض قد أينعت الكثير من تلاميذه.

يشرئب القلب ليرد ببدهيات على فؤوس منطق استفزازي لا تكف عن شج الرؤوس، فيقول:

ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن تخلفنا الحالي في علوم الفضاء والكومبيوتر إلخ... ليس سببه مناقشة ما تسمونه «توافه الأمور»، لقد حان الوقت لنتأمل حقائق ثابتة تؤكد أنه بفضل الإسلام وجدت القواعد الحالية لعلوم الطب، وفي عام 953 ميلادية، أرسل ملك الألمان سفيرا إلى قرطبة، عاصمة الخلافة الأندلسية، عاش فيها ما يقرب من ثلاث سنوات، تعلم أثناءها العربية بإتقان، ونقل مئات المخطوطات الطبية العلمية القيمة التي كان لها الأثر العظيم في نشر العلوم بأوروبا.

نعم، كان العلماء المسلمون يقدمون للإنسانية إنجازات ضخمة، مع أنهم كانوا يناقشون ويبحثون في مسألة المسح على الخف، ويتكلمون في نواقض الوضوء والفرق بين الزواج الباطل ونكاح الشبهة وفاحشة الزنا ويؤكدون أن الجهل بالحرمة يدرأ الحد، (يقرر القانون الوضعي الحالي أن الجهل بالقانون لا يُعفى من العقاب)، ويرسخون مبدأ: «لا حد بعد إبتلاء»، أي لا يجوز التعذيب للارغام على الاعتراف، واذا وقع التعذيب تسقط العقوبة. إن تخلفنا سببه الحقيقي هو: تخلفنا في اللحاق بأنفسنا.