الانتخابات الأمريكية.. واجترار الفشل العربي

TT

كلما حاول المرء أن يقنع نفسه بأنه ما زالت أمامنا فرصة لأن نعيد حساباتنا، وان نتلمس خطورة الأوضاع التي نعيشها، وان نبدأ في تغيير نمط تعاطينا مع قضايانا المصيرية، يفاجأ المرء بصعوبة تغيير الواقع، بل لا نبالغ إذا ما قلنا بأن تراكمات الفشل والخيبة تحولت إلى حائط إسمنتي من الصعب اختراقه.

وعندما يعجز المرء فينا عن تفسير هول الأحداث وضخامة الأزمات، لا يملك إلا أن يعود ويمارس هوايته القديمة ويتسلى في البحث في الدفاتر الصفراء ليبحث في سر استمرار خط الهزيمة التي مني بها العرب. وبعد جدل شاق مع النفس، يستسلم الواحد فينا في انتظار المعجزة التي قد تعيد لنا الإحساس بوجودنا.. وهكذا ودون منازع سجل العرب تفوقا لا نظير له في الظفر بجائزة الفشل.

هكذا تعاملنا مع الانتخابات الأمريكية، ورفعنا أيدينا نتضرع إلى الله ليسقط جورج بوش وأن يأخذ بيد كيري، ليس لأن هذا أفضل من ذاك، وإنما لان رغباتنا المريضة تشعر بالرضا لفشل جورج بوش، وان كان كيري معاديا لقضايانا. ما كان أمام العقل العربي إلا العودة لأدواته الفكرية التي اعتاد عليها في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، ولم ننجح في توظيف أدوات فكرية جديدة. الموقف العربي بأطيافه الفكرية المختلفة يعبر عن حالة عميقة من المرض العضال الذي نهش عقولنا، وجعلنا عاجزين عن فهم العالم وكيفية تسويق قضايانا وكسب التأييد لها.

ومع خيبة أملنا وعودة جورج بوش للمكتب البيضاوي، رددنا في سرنا «حسبي الله ونعم الوكيل» وعدنا القهقرى إلى قناعة أن لا فرق بين بوش وكيري، وان الولايات المتحدة تكن العداء لنا. العقل العربي يرفض المواجهة مع النفس والاعتراف بأن العيب فينا، وان تغيير الإدارة الأمريكية لن يغير في المسألة شيئا طالما نرفض الاعتراف بالقصور في الكيفية التي نتعامل فيها مع أحداث العالم.

لا يمكن للعالم أن يتجاهل الدور الأمريكي في المنطقة، حتى وان أبدى الجانب الأمريكي موقفا لا ينسجم مع تطلعاتنا، وخصوصا في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. على الجانب العربي أن يدرك أن الدور الأمريكي آخذ في التعاظم في صياغة السياسات العالمية، وان الانتخابات الأمريكية الأخيرة ولأول مرة في تاريخها حظيت باهتمام عالمي غير مسبوق، وقد لا نبالغ إن قلنا بأن الرئيس الأمريكي لم يعد رئيسا فقط للولايات المتحدة وإنما رئيس العالم.

علينا أن ندرك أنه بانتهاء الحرب الباردة تبوأت أمريكا القمة، وان أحداث سبتمبر قطعت النشوة الأمريكية ما أدى إلى انقلاب في السياسة الخارجية الأمريكية. ومن الخطأ الاعتقاد بأن التغيير في الإدارة الأمريكية سيغير من ملامح السياسة الأمريكية الخارجية، وخاصة بعد أحداث سبتمبر، حيث أصبح الأمن القومي الأمريكي يتأثر بالنزاعات المحلية وأعمال العنف التي يشهدها عالم اليوم في البقع المختلفة في العالم.

لم يكن تعاملنا مع الانتخابات الأمريكية ينم عن وعي في التغيير الذي أحدثته أحداث سبتمبر في السياسة الخارجية، وبقينا لا ندرك ان الإدارة الديمقراطية أو الجمهورية لا تختلف على الاولويات بقدر خلافهما على الأدوات. الجدل الدائر بين المثقفين العرب على أن القضايا المحلية الأمريكية ستحظى باهتمام أكثر لدى الديمقراطيين لا يمكن إلا أن نعتبره وهما، فالقضايا المحلية مرتبطة بعلاقة جدلية مع الشؤون الخارجية، وانه لم يعد في وسع الولايات المتحدة أن تنتهج سياسة العزلة.

الجانب العربي ساوم على أنه في حال فوز الديمقراطيين سيقومون بسحب قواتهم من البقع الساخنة في العالم. ومع ان الفكرة مريحة إلا أن الرفاهية الأمريكية تعتمد على الصادرات وعلى تأمين سلامة وانسيابية البحار والأجواء، وعلى استقرار شركاء أمريكا التجاريين. كما أن القوة الأمريكية تعتمد على استمرار قدرتها في التأثير على الأحداث العالمية وقيادة العمل الدولي.

ومن المؤكد أن حرب العراق الأخيرة أثارت خلافا أمريكيا أوروبيا، وأننا لا يمكننا أن نتجاهل أن أوروبا لا تريد أن تملى عليها الأوامر، وأنها ترغب في التشاور وان تكون شريكا كاملا. إلا أن أوروبا لا يمكن أن تتجاهل دور الزعامة الأمريكية التي اتضحت أثناء الحرب الباردة ونجاح عملية عاصفة الصحراء.

قراءتنا للأحداث التي شهدها القرن الحالي تؤكد بأن المتاعب تتجه نحو أمريكا، ولا يمكن لأمريكا ان تتجاهل دروس حربين عالميتين نشبتا في أوروبا. أما الجدل الدائر والذي مضى عليه أكثر من قرن بين دعاة المشاركة في شؤون العالم ودعاة الانعزالية، جدل يتسم فيه أصحاب النظرة الانعزالية بسوء فهم لتاريخ القرن المنصرم وهم كذلك يسيئون استشراف المستقبل.

الإدارة الأمريكية سواء ديمقراطية أو جمهورية تنظر إلى الشأن العالمي من منطلق مصالحها الاستراتيجية الكبيرة وليس حبا في التدخل في شؤون الدول حول العالم. ومن المؤكد أن الإدارة الجمهورية استوعبت أخطاءها في تعاملها مع الوضع العراقي الذي أدى إلى نشوب الخلاف الأوروبي الأمريكي، وان الإدارة الحالية سوف تسعى إلى تعزيز مواقعها وخصوصاً لدى حلف شمال الأطلسي الذي كان القوة الرادعة ضد التوسع السوفياتي في القرن المنصرم في أوروبا.

التحديات التي ستواجه الإدارة الأمريكية هي امتداد للتحديات القديمة، وأهمها عمليه السلام في منطقة الشرق الأوسط والتي ستحظى باهتمام خاص، وخصوصاً في التغييرات المرتقبة في السلطة الفلسطينية. أما التحدي الثاني فهو مواجهة الراديكالية الدينية في الشرق الأوسط، والتي أصبحت تشكل تهديدا للأمن القومي الأمريكي وحلفائها. أما موضوع الشرق الأوسط الكبير فسيحظى باهتمام أكثر خلال الأربع سنوات القادمة للإدارة الأمريكية الحالية. ومن الواضح أن القناعة الأمريكية أخذت في التبلور حيال اضطراب منطقة الشرق الأوسط، ولا يمكن للإدارة الأمريكية تجاهل عقود من الإهمال وخيبة الأمل من المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، التي أصبحت سبب رئيسيا في اضطراب المنطقة، مما أدى إلى تغذية حركات العنف التي تمسحت باللباس الديني وباتت تهدد استقرار العالم.

وفي زمن أصبحت فيه الدبلوماسية العامة والأفكار الديمقراطية أكثر أهمية من أي وقت مضى، ليس بوسع الإدارة الأمريكية تجاهل الأوضاع المتردية في منطقة الشرق الأوسط. لقد أصبح الناس العاديين وليست النخب فقط تهتم أكثر من أي وقت بالحرية الفكرية والأفكار الديمقراطية والممارسات العادلة بين الحاكم والمحكوم، وتعظيم دور المؤسسات الأهلية وتغليب إدارة المؤسسات على إدارة الأفراد وأصحاب المصالح الضيقة، وفوق ذلك كله بدأت الصيحات الشعبية تتعالى للحد من التجاوزات التي تشهدها المنطقة في أوجه كثيرة.

الإدارة الأمريكية الحالية مطالبة باتخاذ خطوات أكثر جرأة في دعمها للديموقراطيات الجديدة، وفى دعمها للتحديث.

ربما من المهم أن تدرك الإدارة الأمريكية أهمية تغيير الصورة النمطية التي كانت راسخة في أذهان الكثير من الناس، الذين يرون في أمريكا القوة الداعمة للدكتاتوريات والأنظمة التسلطية.

أما موضوع الإرهاب فسيبقى في قمة الأولويات الأمريكية، ونتوقع ارتفاع نسبة أعمال العنف والإرهاب وخاصة في الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، التي ما زالت لم تشكل قناعات واضحة حيال تردي أوضاعها الداخلية والعلاقة الجدلية بينها وبين ارتفاع وتيرة العنف فيها. وربما لا نستغرب بأن المعركة القادمة ليست فقط مع الإرهاب، وإنما كذلك ستكون مع أنظمة لا تريد أن تغير في منهجها، وترفض تقديم تنازلات على أرض الواقع لشعوبها للحد من عواصف العنف التي يشهدها العالم.

يبقى أن نقول أن التحدي الأكبر للإدارة الجديدة سيكون في عقر دارها، فالانتخابات أفرزت انقساما في المجتمع الأمريكي مرده رفض نصف هذا المجتمع للإجراءات الأمنية التي اتخذت كرد فعل لإحداث سبتمبر، وخاصة قانون «الوطنية» Patriot Act الذي لم يكن منسجما مع الدستور الأمريكي وما يرمز إليه تمثال الحرية في نيويورك.

* أستاذ علم الإجتماع

بجامعة الكويت