حق العودة

TT

وداعاً.

ذهبت حجراً حجراً، كما بنيت اسطورتك طوبة طوبة. وكما لم يكن لك رديف وانت حي، لن يكون لك رديف في الغياب. سوف يكون لك خلف.

الفارق بين الاثنين هو نصف قرن من الحياة الاسطورية. الإبحار في السياسات العربية. الإبحار في حروب الفصائل. الإبحار في حواجز محاولات الاغتيال الاسرائيلية. الإبحار في الحروب الاهلية. الإبحار في الانتفاضات. الإبحار في محاولات التسوية. الإبحار في المفاوضات. الإبحار في البر والبحر والجو.

لن يحظى رجل آخر بمثل هذه السيرة الطويلة من الهبوب والهروب والسكينة والمواجهة والمناورة والاحداث والقيادة والاخطاء والانجاز. لم يبلغ احد ما بلغت. لا الحاج امين ولا احمد الشقيري ولا صلاح خلف ولا خليل الوزير ولا جورج حبش. انتزعت الكوفية عن الارض وعدوت بها: في سباق المائة متر. في سباق الحواجز. في سباق الالف ميل.

وداعاً،

«كل نفس ذائقة الموت» ، «وما تدري نفس بأي ارض تموت».

تلك هي الحياة وذلك هو الموت:

بينما المرء شهاب ثاقب

ضرب الدهر سناه فخمدْ

مات في ثوراتك كثيرون. واستشهد كثيرون. وشقي كثيرون. ونعم كثيرون. وبقيت وحيداً، لا تستشهد ولا تشقى ولا تنعم.

«وقد طوفت في الافاق حتى رضيت من الغنيمة بالأياب»

حق العودة

العودة الاخيرة، مروراً بمصر التي بدأت فيها اسطورتك، الى المقاطعة التي بدأت منها حكمك. الى الرئاسة التي اصبحت سجنك وضريحك.

مأساة اغريقية، لو كتبت في غير زماننا لاعتقدناها خيال الشعراء ومأساوية الاغريق. لكنها كتبت امامنا. بقلمك. سيرة ذاتية خارقة، وخواتم ملحمية لا مثيل لها. ومعطف زيتي عادي هو حقيبتك الاخيرة في رحلة الذهاب والاياب.

عدت الى فلسطين فدائياً سرياً. ثم عدت اليها رئيساً. والآن تعود توقيعاً اخيراً على اسطورة. وداعاً. واخيراً اليك هذه الابيات من سيد الشعر والشعراء:

وفارقت الحبيب بلا وداع

وودعت البلاد بلا سلام

يقول لي الطبيب اكلت شيئاً

وداؤك في شرابك والطعام

وان اسلم فما ابقى ولكن

سلمت من الحِمام الى الحِمام