محاولة لفك طلاسم التأرجح الأميركي.. بين ما هو علماني وما هو ديني

TT

قال ثمانية من عشرة من الذين صوتوا لجورج بوش، أنهم صوتوا له بسبب «القيم الأخلاقية». ولكن 20% فقط من الذين صوتوا لكيري قالوا إنهم صوتوا له لهذا السبب، فيما يعرف 42% من الأميركيين أنفسهم، كما يفعل بوش نفسه، «كمسيحيين ولدوا من جديد»، ويذهبون إلى الكنيسة كل أسبوع. والى ذلك أجازت الأغلبية في 11 ولاية قوانين تحرم زواج المثليين في الانتخابات الأخيرة، وهناك قناعات بأن اليمين المسيحي هو الذي حمل بوش إلى سدة الرئاسة. فهل يعني كل ذلك أن «فجوة إيمانية» حدثت مؤخرا في السياسة الأميركية؟

ذلك سؤال محوري ضمن أي محاولة للتنقيب في الشأن الأميركي، وتقديري أن «فجوة الإيمان» موجودة بالفعل، وهي فجوة كبيرة، وإن كان من السهل جعلها هدفا للمبالغة. فإن تكون من الذين «يولدون من جديد»، فذلك لا يعني هذه الأيام أكثر من بلبلة الجسم بماء داف. إنها شارة ثقافية، وليست في معظم الأحيان تلك التجربة العميقة الخاصة بالآباء المعمدانيين. ودعونا لا ننسى أيضا أن الجمهور المتدين، ولكن غير المحافظ، والذي يذهب مرات أقل إلى الكنيسة، يشمل أكثر من نصف الكاثوليك، وأغلب اليهود، وأغلب البروتستانت من السود، وأغلب البروتستانت البيض ايضا.

وقد صارت «فجوة الإيمان» على هذه الدرجة من الوضوح، لأن عبقرية المستشار الإستراتيجي للرئيس بوش، كارل روف، أضافت الولايات الشمالية الحمراء، إلى الولايات الجنوبية من المواظبين على الذهاب إلى الكنيسة، مستغلا المخاوف التي أثارتها الزيجات المثلية والإرهاب، لجهة تكوين كتلة أكبر مما هو موجود في الواقع. ومع ذلك فهناك أسباب للخوف من تطور الثيوقراطية الدينية ،لأن «عقلية نحن وهم»، والعداوة التي تقوم بيننا وبينهم، و«الخير ضد الشر»، و«الوطنيون الأميركيون ضد الخونة»، و«قوانيننا صحيحة وقوانينهم خاطئة». هذه كلها ظواهر مخيفة إذا لم توضع تحت السيطرة.

وقد يقول قائل أن التشابه بين هؤلاء المتطرفون من ابناء اليمين الاميركي المتطرف، الذين يتجمعون ضد الليبرالية العلمانية، في كثير من النواحي، مع الجهاديين المسلمين الذين يعادون اميركا اكثر من اوروبا، والذين ورثنا عنهم التنوير، إنما يشنون ايضا حربا مقدسة، بما يقترب من تسميته «جهادا اميركيا».

هنا أقول، إنه و في الوقت الذي يعتبر فيه من الخطر اجراء مزيد من «المساواة» و«التوازن» خوفا من مجرد إساءة الفهم، فيمكن للمرئ القول بوجود بعض التشابه بين المتشددين في اميركا واعدائنا المتشددين الآخرين من ملل ونحل أخرى. وكما اشار المؤرخ الراحل هارولد اسحاق فهناك وحول العالم تجمعات هائلة لاشخاص يربط بينهم انشقاقهم عن الآخرين ومعاداتهم، لحماية قوتهم وكبريائهم ومواقعهم، من التهديدات الحقيقية او المتخيلة من الآخرين، الذين يفعلون الشيء ذاته.

ومن هنا، وفي اميركا، فالذي يحدث الآن أن هو أن الاعداء ليسوا فقط من يسميهم البعض بالجهاديين، وإنما ايضا «الليبراليين العلمانيين،» الذين يبتعدون عما يعتبرونه حداثة تؤدي الى التآكل، وتكون النتيجة أن الناس تدير ظهورها لمن ليسوا على شاكلتهم، فيتحولون الى مجموعة نخبوية تدعي الاقرار الالهي. ومن هنا فالنخبوية في اميركا معادية معاداة كاملة للتنوير، ومثلهم مثل المتطرفين الاسلاميين، يتجاوبون بطريقة طبيعية مع مجالات العلوم والتقنية، ولكنهم يعارضون بعض المظاهر العلمية كلما اعتبروها تتعارض مع كلمة الرب كما يفسرونها أو يفهمونها.

فاليمين الديني المتشدد في اميركا ينظر للحداثة على انها شر، ليتماثل في هذا المنظور مع جماعات الجهاديين على الضفة الأخرى، فمن منظورهم فإن التلفزيون يخرب توجيه الآباء، والتعددية تقلل من التدين العلني في الفصول الدراسية، والنسبية تناقض القيم المتينة. كما إنه، وبالنسبة لهم، فالرب يراهم شعبا خاصا بل وأمة مقدسة. ويكمن الخلاف بين الاصوليين، والجماعات الدينية الاكثر تقليدية او الاورثوذكسية، في أن الاصوليين يوجهون الموقف، ويشاركون في النشاط السياسي، ولا يسمحون للعالم بالتحرك، فيرون من الواجب عليهم مواجهة ذلك العالم بإعتباره نطاق للشيطان.

وفي ثنايا هذه السياقاتأ، يبرز الرفض الذي لازم طروحة سام هنتنغتون حول «تصادم الحضارات»، وقد قيل الكثير عن التصادم داخل الاسلام نفسه، بما يعني إمكانية القول الآن، وفي ضوء ما يحدث في أميركا، أن بوسعنا ان نتحدث عن تصادم داخل الحضارة الغربية نفسها؟

وإجابتي هنا هي وبوضوح: أجل، فهناك في الواقع تصادم في اطار بعض سمات الغرب. والصراعات كلها حول «الجنس» و«السلطة» في كل هيمنة من بروتستانتية تجديد التعميد، الى كاثوليكية الروم. ومع ذلك، غير فالقيم المحافظة يمكن أن ان تكون بنية مصطنعة. فهم يختارون «الانتظار في موقفهم الحالي»، عندما يعرفون ان بوسعهم القيام بمثل هذا الانتظار، وعلى سبيل المثال، في قضايا مثل الاجهاض أو زواج المثليين. ولكن، وفي المقابل، وعندما لا يكون بوسعهم الانتظار، وعندما لا يعود المؤمنون التابعون لهم متمسكين بالمعايير التي حافظوا عليها في الماضي، تجدهم يتقبلون التغيير مرغمين. ويصدق هذا في اطار الطلاق، حيث معدل الطلاق اعلى منه بينهم أكثر من أي جماعة اخرى. ولم يعودوا يحفزون على لقاءات أيام الأحد، أو تناول الكحول. انهم يقاومون عندما يكون ذلك ممكنا، ويتكيفون عندما يكون ذلك غير ممكن. ومن المؤكد أن هناك تصادمات في ما يتعلق بالعائلة والطلاق. فالمعارك حول المثلية الجنسية والاجهاض هي مؤشرات رمزية. وهي تجليات لمثل ذلك التصادم.

والى ذلك ففي هذه الانقسامات، ما سماه الفيلسوف بيتريم سوروكين «فوضى الاحساس المتأخر» أو «أزمة المجتمعات العلمانية التي تبشر بتدين جديد»، إذ من الواضح ان العلمانية لا تقنع كثيرين، فيما تتمثل المفارقة النهائية للحداثة في ان انجازات التقدم العلمي مثل الاستنساخ، لتنتهي الى انبعاث المخيلة الدينية بسبب أن كل الأسئلة القديمة عن الأصول والمصير توضع موضع البحث.

هنا يمكن القول أن الخطوط والفواصل تتلبس حالة في غاية الايجاز الدقيق. فهناك استياء كبير من عقم نواحي الحياة الحديثة، وان العقلانية العلمانية تفعل الكثير في اطار الجانب «العملي» من الحياة، لكنها تفعل القليل من أجل تلبية حاجات الروح الانسانية، ولحد القول بأن أشياء مذهلة تماما تحدث في كل جبهة، حيث يتداخل الدين والعلم، من التطورات في بحث الدماغ والوعي، الى علم الجينات وعلم الخلاق.

ان المجتمع الذي يعيش فيه معظم الأميركيين في الواقع هو ليس دينيا ولا علمانيا، وانما مزيج من المواقف التي اسميها «دينية علمانية». انها صيغ من التداخل. فأنا مسيحي، ولكنني افكر بطرق علمانية طيلة الوقت. واذا كنت مريضا، فإنني لا أريد جراحة دماغية مورمونية (نسبة الى طائفة المورمونيين)، ولا أريد دما على الطريقة المعمدانية، او تطبيبا للأمعاء على الطريقة اللوثرية، فكل ما اريده هو المعالجة. ونحن نمزج في مجرة الحياة العملية، الديني والعقلاني في كل ما نقوم به. وحتى كوني مسيحيا مؤمنا، فإن جزءا مني يبقى مع التنوير. وفي كل مرة أرى فيها شخصا يخرج من نهر الغانغيز مصابا بمرض الزحار، فإني أتذكر على الفور ولاءاتي العلمانية. * أحد كبار اللاهوتيين الأميركيين ومؤرخ للأديان، والمقال مأخوذ من مقابلة له مع ناثان غاردلز رئيس تحرير غلوبال فيو بوينت (خاص ـ بـ«الشرق الأوسط»)