عرفات : الزعيم الفذ الذي عرفت

TT

لقد آلمني كثيرا نبأ وفاة ياسر عرفات الذي عرفته منذ عام 1968 والتقيته عشرات المرات، ويمكن القول بأنه ربطتني به أواصر الصداقة. وتحت سمعي وبصري تحول هذا الرجل، الذي ولد في أتون نضال الفلسطينيين المسلح، فدافع من أجل حقوقهم، تدريجيا، الى سياسي متبصر ورشيد وواقعي، فأصبح العالم بأسره يأخذه بعين الاعتبار بصورة أو أخرى. كما كانت تبدر منه في الآونة الاخيرة احيانا، عبارات ثورية حادة، تؤججها العمليات «المفرطة في العنف» التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي حيال الفلسطينيين. لكن ما كان بوسع احد ان يسمع منه ان الطريق الوحيد بالنسبة الى الفلسطينيين، هو شن النضال المسلح فقط حتى تحقيق النصر النهائي، وان بلوغ السلام مع اسرائيل مستحيل، وان من الواجب مسحها من على وجه الارض، فقد ولت جميع هذا الشعارات مع الماضي البعيد. واغلق عرفات وراءها الباب منذ امد طويل.

واستعيد في ذاكرتي اللقاء مع ابي عمار عشية «ايلول الاسود» في عام 1970. وقد جلسنا عدة ساعات في غرفته الصغيرة في دمشق، والتي كانت محتوياتها تقتصر على طاولة كتابة صغيرة وسرير ضيق. وجرى اللقاء في اثناء احتدام العلاقات الاردنية الفلسطينية بشدة، فقد اختطف المسلحون من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الجو اربع طائرات تابعة لشركة طيران «العال» الاسرائيلية، وارغموها على الهبوط في مطار عمان، وهددوا بقتل جميع ركابها، اذا لم يطلق سراح السجناء الفلسطينيين الموجودين في السجون الاسرائيلية. وبعد رفض تلبية هذا الطلب افرج عن الركاب وافراد اطقمها، بينما فجرت الطائرات. وأخذ الاردن يلاحق المنظمات الفلسطينية ويبعدها عن أراضيه.

وقال عرفات صادقا، وبدون تزلف، ان الفلسطينيين ستكون لهم، بلا ريب، الكلمة العليا في الاردن، حيث ان جميع الضباط في جيش المملكة هم من الفلسطينيين، ولن يرفعوا يدهم على اخوانهم. ولم يقبل الحجج القائلة ان الامر ليس بهذه البساطة، وان إسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين، في حالة استيلاء منظمة التحرير الفلسطينية على السلطة في عمان. ورد أبو عمار على ذلك بقوله ان العالم العربي بأسره سيتحول في هذه الحالة الى فيتنام ثانية.

ولشد ما أثار دهشتي حين رسم عندئذ أمامي خريطة فلسطين المنقسمة الى شطرين. وقال عرفات: نحن سنكون هنا، مشيرا ليس الى الضفة «الشرقية الاردنية»، بل الى الضفة الغربية وغزة، وهنا ستكون اسرائيل». ووقع بطلب مني بلا تردد على الخريطة التي احتفظ بها كأثر تاريخي. وحدث هذا في صيف عام 1970، أي قبل عشرين عاما من اعلانه جهارا ان هدف الحركة الفلسطينية ليس القضاء على اسرائيل ودمارها. حين اخذت هذه الخريطة بيدي اخذت ادرك بأنه لا يجوز الحكم على ياسر عرفات من «اقواله في الاجتماعات والحشود»، فهو أكثر عمقا وأكثر تعقيدا وذو سمة بناءة أكثر، وهو ما لم يعترف به خصومه واتباعهم يومذاك، كما انهم لا يعترفون بذلك اليوم أيضا.

واستعيد في ذاكرتي لقاء آخر مع عرفات في عام 1990، في اثناء الأزمة الناجمة عن الغزو العراقي للكويت. وكنت قد توجهت بتكليف من الرئيس ميخائيل جورباتشوف الى بغداد، بهدف سبر احتمال سحب قوات صدام حسين من الكويت بدون حرب. وفي الطريق الى بغداد قررت الهبوط في عمان، والتشاور مع ياسر عرفات الذي استجاب فورا لطلبي، ووصل الى العاصمة الاردنية مع حاشيته كلها. وكان عرفات آنذاك احد الزعماء العرب القلائل الذين ايدوا صدام حسين. وقال عرفات بعد ان أجال نظره في الحاضرين من رفاقه: إذا ما شنت الحرب ضد العراق، فسيعم الاضطراب العالم العربي كله ويتحول الى فيتنام ثانية. فذكرته بحديثنا في دمشق في عام 1970، وكيف ان انعطاف الاحداث لم يؤكد تنبؤاته. ولزم عرفات الصمت هنيهة، ثم أمر بإعداد طائرته للسفر الى بغداد. وقال: سأحاول تهيئة التربة لنجاح مهمتك.

وأنا على يقين من ان عرفات كان يصبو فعلا بالرغم من تصريحاته العلنية الى حث صدام حسين على اتخاذ قرار بشأن سحب قواته من الكويت. وربما لا يعرف الجميع بأن هذا قد جرى فعلا. بالمناسبة ان رجال حاشية صدام حسين أكدوا لي في اثناء زيارتي الثانية الى بغداد التي جرت بعد اسبوعين من الزيارة الاولى، ان الفلسطينيين لم يؤيدوا العراق «كما ينبغي».

ما هي قيمة ياسر عرفات كشخصية تاريخية؟

انها قبل كل شيء في صيرورة مثل هذه الشخصية. وما كان بوسعه ان يغدو مثل هذه الشخصية لو مضى صراحة ضد التيار، متجاهلا بذلك اتجاهات تفكير شرائح واسعة من الفلسطينيين، وكذلك رفاقه في (فتح) الحركة التي ترسخت بصفتها صلب منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد توحدت في منظمة التحرير الفلسطينية حركات فلسطينية ذات آراء سياسية وايديولوجية متباينة.. فكان جورج حبش يتولى قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة يتولى قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وكلاهما كانا يرفعان الشعارات الماركسية. اما ياسر عرفات فقد بقي، بخلاف من اعتبر نفسه ماركسيا، في اطار الفكرة القومية، مع التركيز على النزعة البراجماتية التي اصبحت القوة المحركة لتطوره الارتقائي.

وانا أوجه السؤال الى من يبدى عنادا، ان جاز القول، في تقييم عرفات بكونه متطرفا: هل سمع منه أحد الدعوة الى «الجهاد» او رأى في افعاله عموما المحاولة لصبغ نضال الفلسطينيين في سبيل حقوقهم بصبغة دينية؟ لم يحدث أبدا. ويمكن القول بأن (فتح) بقيت بوجه عام كحركة سياسية وعسكرية ليست ذات طابع ديني لحد كبير بنتيجة تأثير ياسر عرفات، مؤسسها وقائدها بلا تغيير على مدى عقود السنين. ويمكن قول الشيء ذاته عن منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد زرت غزة حين كنت وزيرا للخارجية الروسية في عام 1996، كانت توجد هناك السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة عرفات. ولن أنسى لقاءاتي معه في تلك الفترة. علما بأنه بدا لي رجلا ولج المرحلة الجديدة التي دشنتها اتفاقية السلام مع اسرائيل. ولم تساورني أية شكوك في ان ياسر عرفات لم يكن ينظر الى الوثيقة التي وقعها مع اسحاق رابين باعتبارها خطوة تكتيكية، بل كان يتحدث باعتزاز عن انه ولت مع الماضي فترة المنفى في تونس، وتتفتح الآفاق الواقعية لقيام الدولة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه لم يقع في ضلال بشأن صعوبات الطريق الذي يتكشف أمامه. وتحدث عرفات بانفعال عن الصعوبات الجسيمة التي يلقاها في تنفيذ حتى الاتفاقات بعد التوصل إليها مع اسرائيل، بصدد مطار غزة والطريق الذي يربط قطاع غزة بالضفة الغربية.

كما تولد لدي في اثناء الحديث الطويل مع عرفات الانطباع بأنه مستعد للحلول الوسط. وليس استعداده فحسب بل وثقته بضرورتها. ويخطئ كل الخطأ الخبراء الغربيون في شؤون الشرق الاوسط، وليس الغربيون فقط، بزعمهم ان الشخصيات الفلسطينية الأخرى، وليس عرفات، قد بدأوا يومذاك الخط المعتدل. وانا اعرف ذلك من المصادر الاولية بأن الشخصيات السياسية التي اجرت اتصالات مع الشركاء الاسرائيليين مباشرة، كانت تعمل في المفاوضات بأوامر مباشرة من عرفات. حقا انه كان يبتغي كسب اقصى ما يمكن، لكن من هم المتفاوضون الذين لا يفعلون ذلك؟ حقا انه كان يخطئ احيانا لأعتقاده بأنه سينبثق بعد قليل وضع مناسب اكبر، ويجب «جرجرة» الامور حتى بلوغه، من اجل توقيع اتفاقيات نافعة أكثر بالنسبة الى الفلسطينيين. لكن من هو الرجل المعصوم من ارتكاب خطأ بهذا الشأن؟

وثمة اقاويل كثيرة بصدد الموقف الخاطئ فعلا، حسب اعتقادي، وهو موقف عرفات السلبي من «خطة كلينتون» التي تضمنت لأول مرة تقسيم القدس الى شطرين ووضع نسبة فوق التسعين بالمائة من الاراضي المحتلة تحت سيطرة الدولة الفلسطينية. لكن ماذا كان يكمن وراء هذه السلبية؟ حين التقيت عرفات مرة اخرى، حاول اقناعي بأن العالم العربي عموما لن يقبل اتفاقية واسعة لا تحدد فيها حقوق جميع الفلسطينيين في العودة الى وطنهم. لكنه لم يستطع اقناعي. ويرى كثير من رجال السياسة والباحثين السياسيين ان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، الذي لا يقبل الجدل، يجب ان يتمتع بهذا الحق كل راغب فيه. قد يكون غير قابل للتطبيق حين يفضل بعض اللاجئين العودة، بينما يحصل آخرون على تعويضات تتيح لهم الاستقرار في اقطار عربية اخرى. واعتقد ان عرفات كان يدرك ذلك في دخيلة نفسه، لكن موقف المشتركين في دورة جامعة الدول العربية كان يمارس الضغوط عليه. ولربما كان يأمل في ان يتمكن في الاجتماع المرتقب في طابا، بعد اعلان «خطة كلينتون» الاتفاق مع الاسرائيليين انفسهم حول مجمل قضايا التسوية. وتم الاتفاق في طابا فعلا الى اقصى حد. لكن لم يتسن تثبيت الاتفاق في صيغة اتفاقية. فقد كان من المقرر اجراء الانتخابات في اسرائيل، وجاء الى السلطة بنتيجتها ارييل شارون رئيس الوزراء.

ربما توجه الانتقادات الى تصلب عرفات في فترة وجود حكومة باراك في السلطة في اسرائيل. لكن يجب ألا ننسى بأن الجانب الإسرائيلي لم يبد الروح البناءة بقدر كاف. على أي حال لم يفز في الانتخابات في اسرائيل من كان مستعدا للحلول الوسط العادلة مع الفلسطينيين. الا ان عرفات لم يكن من أحبط المفاوضات. كما انه لم يقم باستثارة الاشتباكات الفلسطينية ـ الاسرائيلية التي وقعت بنتيجة زيارة شارون الاستعراضية لجبل الهيكل، حيث يوجد المسجد الاقصى احد الاماكن المقدسة الاسلامية الرئيسية. ويتحمل الجنرال شارون وليس عرفات المسؤولية عن بدء تصعيد العنف.

ومعروف ان الجانب الفلسطيني يقوم ضمنا بعمليات ارهابية ضد السكان المسالمين في اسرائيل. وتزعم القيادة الاسرائيلية بأن عرفات يقف وراءها. وانا لا اتفق مع هذا بشكل قاطع. ولا تكمن المسألة فقط في تصريحات الزعيم الفلسطيني المعلنة جهارا بادانة الافعال ضد السكان المدنيين، بل انها تكمن ايضا في ان عرفات البراجماتي والواقعي كان يدرك بأنه لا يمكن تحقيق النصر بوسائل الارهاب فحسب، بل أن هذا يسيء الى سمعة المقاومة الفلسطينية، ويضعف التضامن مع الفلسطينيين من قبل الساعين الى التسوية العادلة للنزاع في الشرق الاوسط. ويزعم البعض بأن عرفات لم يمنع عن قصد الافعال الارهابية بحجة انها تدفع القيادة الاسرائيلية الى الحل الوسط. وانا استبعد ذلك كليا. ففي مثل تلك الظروف، وحين تؤدي «التدابير الجوابية» الاسرائليية الى مصرع المئات من الاهالي المسالمين من الجانب الفلسطيني، يغدو من الصعب والصعب جدا كسر هذه «الحلقة المفرغة». وكان لا بد لعرفات أن يرى أن التفجيرات التي يقوم بها الاستشهاديون الانتحاريون تقود الى جنوح المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين، واشتداد نشاط العناصر الراديكالية. وفي نهاية المطاف لم يعد بوسعه بعد ان اصبح رهين محبسه في رام الله، ان يوجه حركة المقاومة الفلسطينية بصفته القائد الوحيد لها.

وعرفات بلا ريب قائد متألق. فهو يجسد نضال الشعب الفلسطيني في سبيل حقوقه. كما انه غدا بمثابة راية للمناضلين من اجل قيام الدولة الفلسطينية.

ماذا سيحدث بعد عرفات؟ السيناريو الاسوأ هو نشوب الصراع على تركته، والصراع على السلطة في الحركة الفلسطينية. وينبعي ان نأمل في ألا يحتدم هذا الصراع وان تتوفر الحكمة الكافية من اجل عدم افساد القضية التي وهب لها عرفات حياته كلها.

* وزير خارجية روسيا السابق، خاص بـ «الشرق الأوسط»