رحيل عرفات.. نفق الاختبارات الحاسمة

TT

وهكذا لفظ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أنفاسه الأخيرة في مستشفى عسكري بباريس، وليس في القدس، عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة، التي كان يتمنى أن ترى النور وهو على قيد الحياة.

غادر أبو عمار بعد حال مرضية عضال بقيت تحبس أنفاس الفلسطينيين وأشقائهم وأصدقائهم في كل مكان بسبب الأهمية التاريخية والاعتبارية، وربما «السيادية»، لهذا الرجل، الذي حمل هموم شعبه المنكوب على كتفيه منذ عام 1965، بعد أن أسس مع مجموعة من رفاقه منظمة التحرير الفلسطينية كي تكون «الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني»، لتحظي بالاعتراف العربي والعالمي. لكن وفاة عرفات بهدوء محاطا بالاحترام والتقدير الدوليين، لا يمكن أن تمر من دون إثارة العديد من التساؤلات ان لم نقل الصراعات، حول ما سيخلّفه من قضايا، ومن سيخلِفه في قيادة الشعب الفلسطيني. وإذا كان من شبه المؤكد أن عرفات سيترك فراغاً في السلطة، فإن قصة الأيام الأخيرة من حياته تثير الكثير من الشكوك والألغاز التي ينبغي حلها كشرط مسبق لانتقال سلس وتلقائي للسلطة بعد أن «احتكرها» الراحل لسنوات طويلة بلا منافس ولا مناقش.

ولولا الظهور المفاجئ لسهى الطويل، عقيلة الرئيس الراحل، قبيل ايام من وفاته، لكان موضوع مغادرة عرفات، ثم انتقال السلطة أمراً عادياً، خاصة بعدما «عرضته» القيادة الفلسطينية من اتساق وتناغم جمع بين أطراف الجيل الأول الذي ينتمي إليه عرفات، في اجتماعات متلفزة تدعو إلى الاطمئنان والسكينة. لكن صورة السيدة سهى على سطح الإعلام، مترافقة مع نداء صيغ بلغة استفزازية، جعل موضوع المسببات المباشرة لوفاته يثير تكهنات وعلامات الاستفهام. من بينها تكهنات حول تعمد وضع نهاية لحياته بطريقة معينة، كدسّ السم في طعامه، بينما ترافق نداء سهى عرفات بـ«تهم» موجهة للزعماء الفلسطينيين الذين نقل عرفات، إلى باريس للاستشفاء بموافقتهم وحسب ترتيباتهم. وهي اتهامات جادة وخطيرة في هذه الأجواء المشحونة انفتحت بعض الجروح والقضايا الدفينة عند أبرز الزعماء الفلسطينيين، الذين دأبوا على الحفاظ على حد أدنى من اللياقة والتبريرية في التعامل مع عقيلة زعيمهم الشابة. ولكنهم مع هذا رفضوا تصريحاتها الاستفزازية ولم يتوانوا عن لومها لعدم اكتراثها بحال زوجها طيلة سنوات عزله وعزلته في بناية واحدة برام الله،. وإذا كانت هناك بعض الأصوات القيادية الفلسطينية تتحدث بهمس عن أموال خاصة بالشعب الفلسطيني قد اختفت على حين غرة، فإن وزير الخارجية الإسرائيلي شالوم، حاول أن يصب الزيت على النار مستغلاً «صمت» عرفات الاضطراري في غرفة العناية المركزة في المستشفى العسكري. قال شالوم إن ياسر عرفات يمتلك أموالاً طائلة، والمشكلة تتعلق بمن سيضع اليد عليها، من دون أن يذكر صراع «المستورثين»، إذا ما استخدمنا اللفظة المفضلة لدى سهى عرفات بديلاً عن «الورثة»! لكن المعضلة التي ستطفو على السطح، تتجسد في سحب خط واضح بين ما يعود للسلطة الفلسطينية من اموال يثار لغط حولها، وبين ما يعود منها لورثته الشرعيين من أفراد أسرته. وهو سؤال مهم قد يكشف عن تعقيدات شائكة، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار، أن الراحل كان قد حصل على مكافأة جائزة نوبل للسلام، زد على ذلك ما كان يحصل عليه من بعض الزعامات العربية.

وإذا كانت خلاصات سهى عرفات تشير على نحو ملتوٍ الى أن رفاق عرفات، من الجيل الأول، المهيمن على القيادة الفلسطينية، هم أصحاب المصلحة في موته، فإن على المرء ألا يتعامى عن أن هناك جهات أخرى ترى في مغادرته النهائية مصلحة لها. ولا ريب في أن الحكومة الإسرائيلية هي من أكثر المستفيدين من وفاة عرفات في سياق هذا الجدل، ذلك أنها قد أعلنت بصراحة «رسمية» في مناسبات عدة، بأنها تجد فيه عقبة على طريق التسوية والحوار، الأمر الذي يبرر قتلها له، كما فعلت مع العديد من القيادات الفلسطينية، الإسلامية منها خاصة. إذاً فالحكومة الصهيونية كانت تتمنى الموت لعرفات على نحو معلن، بل إن تحذير الإدارة الأميركية للحكومة الإسرائيلية من مغبة الاضطلاع بمثل هذا العمل، هو الذي وقف حاجزاً بين المروحيات الإسرائيلية وحياة الرئيس الفلسطيني، خشية استثارة الانزعاج الأميركي والغضب العربي، داخل وخارج فلسطين. ولكن هذا لا يعني أن الحكومة الإسرائيلية قد تخلت عن الفكرة جملة وتفصيلاً: فالموت واحد، ولكن مختلفة هي أساليب تحقيقه.

الشعب الفلسطيني يقف اليوم أمام واحد من أهم الاختبارات الحاسمة في تاريخه الحديث: فعلى الرغم من فرض الشلل وعد الفاعلية على عرفات عبر السنين الفائتة منذ عام 2000، كان وجود الرئيس الفلسطيني يمثل واحداً من أهم أعمدة بقاء ما يمكن أن نطلق عليه «مدرسة عرفات»، وهي مدرسة مناضلي الجيل الأول بعد النكبة. وعلى الرغم من بقاء عرفات ومدرسته على رأس السلطة الفلسطينية، فقد برزت أصوات متمردة وثائرة وناقدة لهذه المدرسة وللأسلوب الذي أدارت به دفة الحكم والعمل الفلسطيني، وأوصلته الى طريق مسدودة. لقد ظهر أبناء الجيل الثاني تحت ظل قيادة عرفات التقليدية على نحو تلقائي، ولكنه لم يخف اعتراضاته على القيادة، كما ظهر رماة الحجارة والإسلاميون الذين قدموا رؤى مختلفة عن رؤى هذه القيادة التقليدية. بيد أن جميع هذه الأصوات بقيت طي الكتمان والتغطية بسبب وجود عرفات الذي كان يرمز لوحدة الشعب الفلسطيني قبل كل شيء. الآن ستطفو الصراعات والخلافات التي يمكن أن تؤول إلى شق الصف الفلسطيني، لا سمح الله. والسؤال هنا: هل سيظهر زعيم فلسطيني كارزمي من نمط عرفات يجمع خيوط الولاءات والرؤى الفلسطينية المتنوعة تحت مظلة واحدة، تحفظ وحدة الصف الوطني لتحرك المياه الراكدة الممتدة بين الفلسطينيين وقيام دولة لهم؟