الطريق إلى الحقيقة!!

TT

أحيانا يشعر المرء بأن الحياة اضيق من ثقب الباب بالنسبة اليه، ويصاب بحالة من اليأس والاحباط نتيجة الاوضاع المخزية بدول عالمه الثالث، فيستجمع شجاعته، ويقرر التنقيب عن الحقيقة واعلانها على الملأ، ويطوي تحت ابطه خريطة تبين مواقع خطواته، ويسلك طريق المواجهة، لكن ما ان يصل الى منتصفه حتى تخور قواه، ويتبخر حماسه في ارجاء الفضاء، متسائلا في صوت خافت: لماذا اجعل من نفسي كبش فداء، والآخرون يقطفون ثمار معاناتي؟! ما الذي سأجنيه من ثورتي وانا مدرك ان الاوطان العربية ذاكرة مجتمعاتها هشة، سرعان ما تنسى مواقف ابطالها في لجج البحث عن لقمة العيش؟

ويقفل راجعا، ويدس جمسه في الفراش، متلاشيا النظر في المرآة حتى لا يبصق على جُبنه، ويصفع تخاذله، ويمسك بصحيفته اليومية، وتتصلب حدقتاه امام خبر تناقلته وكالات الانباء، عن قرار وزير خارجية اليابان اعادة مرتبه عن ستة اشهر الى خزينة الدولة، عقابا له عن تهاونه في عمله، بعد ان ثبت تورط احد مسؤولي وزارته في فضيحة مالية. وتتشنج اصابعه، ويكور الصحيفة بعصبية بين كفيه ويلقيها بعنف لترقد خانعة في احدى زوايا غرفته، ويصاب بحالة مستعصية من النحيب المتواصل، كونه قارن بين تصرفات مسؤولي البلدان المتحضرة، وبين تصرفات بعضهم بدول عالمه الثالث، وكيف يكون احدهم وكيف يصبح متخما بالثراء من دون ان يجد من يقول له: من اين لك هذا؟! ويشعر بالضجر والملل يتسرب الى جنبات نفسه، فيلعب في مفاتيح تلفازه، وتطلع له صورة بيل كلينتون الرئيس السابق للولايات المتحدة الاميركية، وهو واقف كتلميذ خرج لتوه من قاعة الامتحان قائلا إنه سيقوم هو وزوجته برد كافة الهدايا المقدمة للبيت الابيض، كونه يحترم نية المتبرعين، الى جانب تصريحه بأنه سيقوم باعالة اسرته، حيث لم تتح له الفرصة اثناء عمله كرئيس في توفير المال لهم. ويغمض عينيه، وتمر امام مخيلته قائمة بأسماء رؤساء من بلدان العالم الثالث نهبوا بلادهم، وملأوا جيوبهم من قوت شعوبهم، ويحس بالغثيان، والرغبة في التقيؤ.

ويقلب المحطة، ويقف عند برنامج حواري من البرامج الصاخبة التي تعودت على بثها معظم القنوات العربية، ويلاحظ كيل الاتهامات الموجهة للدول المتحضرة، وعن نظرية المؤامرة، وعن الديمقراطية المزيفة التي تعيش في اجوائها المجتمعات الغربية، وفجأة يجد الاصوات ترتفع، والاذرع تلوح بعصبية، وكل طرف يوجه السباب للطرف الآخر، ثم ينسحب احد الطرفين محتجا على المعاملة المجحفة في حقه، ويود لو كان بامكانه شق تلفازه، والتشبث بأعناق الحاضرين، محاولا تنبيههم الى انهم يعيشون في اوهام صنعوها بأيديهم، وان الديمقراطية تعني ادب الحوار، واحترام الرأي المخالف اذا ثبتت صحته. لكنه يعود ويتذكر ان الشعوب العربية تعودت على القمع والعنف منذ نعومة اظفارها، وتحضره مقولة المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد بأن الديمقراطية في العالم العربي مفتوحة على الدماء! ويستسلم كرها للنهايات المفجعة ملقيا تساؤلاته في نفاية بيته. ويرى بصيصا من الامل يلوح امامه، ويستبشر خيرا حين يسمع عن نجاح العلماء في اكتشاف الخريطة الوراثية للبشر، التي ستفتح الابواب لمعرفة اسباب الامراض وكيفية القضاء عليها مبكرا، ويصرخ فرحا بأعلى صوته.. اخيرا سيتم القضاء على جينات التسلط والديكتاورية، ويصبح الناس كافة مسالمين، متحابين، وستندثر الحروب من الارض. لكن يتسلل اليه هاجس مباغت.. هل من مصلحة الشعوب ان تنضب مقاومتها، وتصاب بالبلادة والخنوع؟! وتتوالى قدام مخيلته صور عديدة لشعوب آمنت بحقها في الحياة بكرامة، والمجاهرة بمطالبها، كما حدث بالامس في بلجراد واسقاطها طاغيتها، وكما فعلت الفلبين منذ ايام مع رئيسها الذي ازاحته عن الرئاسة بعد تورطه في قضايا الفساد، وكما قامت به اندونيسيا عندما اطاحت برئيسها سوهارتو بعد نهب اموال شعبه. ويخرج المرء من حصيلة الاحداث الواقعة، بوجوب الابقاء على جينات التسلط والديكتاتورية لحقنها في اوردة الشعوب لتدافع بجسارة عن حقوقها امام الطغاة الذين يتركون الفتات لشعوبهم. وتصطدم عيناه فجأة بسطر صغير يوضح ان البيئة والظروف لها تأثير كبير في تكوين بني البشر، وتنهار عزيمته، ويدق رأسه في الحائط حتى تنزف منه الدماء، ويسقط على الارض من الاعياء والتعب مرددا.. لا فائدة.. لا فائدة، مقتنعا ان تربة العالم الثالث مليئة بالاوبئة والسرطانات الشبقة التي تأكل بوحشية جلود البشر، وان لا فائدة من حقن اجساد افرادها الهزيلة بجينات الديكتاتورية! ويلبس معطفه هاربا من هذا الجو الخانق ليخمد جمرة فكره، غير آبه بالطقس المتقلب الذي يعصف خارجا، او يأبه بالسيول العارمة التي تجتاح الطرقات المتعرجة، ويشعر بالجوع يقرص معدته، ويتحسس جيوبه، ويكتشف انها خاوية، ويغافل احد اصحاب الافران المفتوحة، ويمد يده خلسة ويأخذ رغيف خبز يسد به جوعه، ويتنبه الى يد غليظة تمسك بتلابيبه، ويد اخرى تقبض على احد كتفيه بقسوة تكاد تخلعه من مكانه، وتدور عيناه هلعا في الوجوه المتحجرة المحيطة به، الناظرة اليه شزرا قائلة في نفس واحد: انت لص! ويبتلع آخر لقمة على عجل دون مضغ، قائلا: كنت جائعا! يجيبه احدهم بغلظة: ليس عذرا، لا بد ان تنال عقابك على سرقتك حاجيات غيرك. يفتح فمه معترضا: هل تحاسبون من يسرق رغيفا، وتتركون من يسرق جملا؟! يلكزه احدهم في خاصرته، ويلطمه آخر على وجهه، ويضع ثالث الاصفاد في معصميه قائلا بتهكم: الجمل غير الخبز، ألم ينبهك احد لهذا الامر؟! لقد قررنا حبسك حتى تكف عن القيام بهذه الافعال مرة اخرى.

ويطأطئ رأسه في وجع، ويردد في صوت خافت: لا بد ان تكون شعوب الارض ديكتاتورية في ما يخص مصائرها، حتى تحصل دوما على نصيب الأسد من خيرات بلادها.

ويفيق من ذهوله على كاميرات المصورين تجتاحه من كل مكان، آخذين له صورا من كافة الاتجاهات، ويرمونه في زنزانة صغيرة يندب حظه العاثر الذي قاده للخروج في تلك الليلة المشؤومة الطالع، ويسربون له صحيفته المفضلة، وتطالعه صورته البائسة مطبوعة على الصفحة الاولى وتحتها مانشيت كبير: الدولة لن تتسامح مع السارقين، وستعاقب بشدة كل من تسول له نفسه نهب قوت الشعب. وبمحاذاة هذا الخبر صورة بارزة لشخصية كبيرة هربت للخارج بعد ان تورطت في اختلاس اموال عامة اضرت بالدخل الوطني. ويفلت زمام عقله، ويضع الصحيفة تحت قدميه، ويرقص رقصة شعبية كان يتقنها في صغره!