دستور... يا جماعة

TT

أقول عفوا... أقول «دستور»... يا جماعة الخير. ولا أقول «دستور»... يا أسيادنا، لأن من أخاطبهم ليسوا أشباحاً ولا أرواحاً من الجن.. وإنما خلقوا بشراً سوياً. انهم بعض اخواننا الاعزاء في هيئة تحرير إحدى الجرائد، الذين طلعوا علينا بتساؤلات محبطة للآمال المعلقة على الدستور الدائم، الذي شكل الأمير لجنة حكومية من أجل اقتراح مسودة الدستور عليه.

إن تلك التساؤلات تنبئ عن سوء فهم ـ وحاشا أن أقول سوء قصد ـ لما يجب أن يقوم عليه الدستور القطري الدائم من مبادئ ديمقراطية طال انتظارها. فمنذ صدور النظام الأساسي المؤقت عام 1970 وتعديله بالنظام الأساسي المؤقت المعدل عام 1972، وعد الشعب القطري بدستور دائم وفقا للمادة 70 التي نصت على ان «يوضع نظام أساسي دائم للدولة يحل محل النظام الأساسي المؤقت المعدل ويعمل به إثر فترة الانتقال».

وقد طالت فترة الانتقال حتى بلغت ثلاثين عاما وأهل قطر صابرون منتظرون، أولاً: لتفعيل النظام الأساسي المؤقت المعدل، ومنه على سبيل المثال ما ورد في ديباجته حول تشكيل مجلس شورى «بالانتخاب العام السري المباشر» بعد انتهاء مدة مجلس الشورى الأول المعين التي حدد لها عام واحد فقط. وثانياً: مترقبون لليوم الذي يدعون فيه مثلما دعي شعب الكويت عام 1962 وشعب البحرين عام 1972 إلى انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً ديمقراطياً للبلاد من أجل تطبيق ما نصت عليه المادة الأولى من النظام الأساسي المؤقت المعدل من أن دولة قطر «نظامها ديمقراطي». وكذلك ما نصت عليه الفقرة (د) من المادة 5 بصدد المبادئ السياسية على ان «توجه الدولة عنايتها في كل المجالات لارساء الأسس الصالحة لترسيخ دعائم الديمقراطية الصحيحة، واقامة نظام حكم إداري سليم يكفل العدل والطمأنينة والمساواة للمواطنين، ويؤمن الاحترام للنظام العام ويصون أمن الوطن واستقراره ومصالحه العليا».

الدستور الديمقراطي من هنا فإن شعب قطر المتطلع للمشاركة السياسية الفعالة في اتخاذ القرارات العامة وتحديد الخيارات الوطنية المؤثرة في مصيره ومستقبل أجياله، ينتظر من الدستور الدائم ان يكون دستوراً ديمقراطياً يضع أسس النظام الديمقراطي ويرسخ دعائم الديمقراطية الصحيحة التي وعد بها النظام الأساسي المؤقت المعدل.

وجدير بالتأكيد ان الدستور الديمقراطي يجب ان يقوم على مبادئ ويقيم مؤسسات ويفعل آليات ويوفر ضمانات ديمقراطية، كما يجب ان يكون الدستور الديمقراطي عقدا مجتمعيا متجددا في اطار عقيدة المجتمع وهويته، يشارك في مناقشته أفراد الشعب وجماعاته، ويتم وضعه وإقراره من قبل جمعية تأسيسية منتخبة. وفي هذا الصدد يختلف الدستور الديمقراطي عن الدستور غير الديمقراطي من حيث الشكل والمضمون.

فمن حيث الشكل هو عقد مجتمعي تضعه وتقره جمعية تأسيسية منتخبة وليس منحة ظاهرة أو مبطنة بالاستفتاءات. وما نعرفه عن الاستفتاءات في الدول العربية من سوء سمعة يجعلنا نحترم دستور المنحة الظاهرة ـ من دون أن نقبله أو نفضله ـ لما فيه من صدق بصرف النظر عن مدى رضانا عن مضمونه.

أما من حيث المضمون فالدستور الديمقراطي يجب ان يلتزم بمبادئ ومؤسسات وآليات وضمانات ديمقراطية ويقوم على أساس مبادئ المواطنة المتساوية والشعب مصدر السلطات، ويرسي أسس حرية التعبير والتنظيم لتنمية الرأي العام المستنير وتحقيق مشاركة سياسية فعالة، كما يؤسس قيم الديمقراطية في الثقافة والمجتمع ويجعل من الديمقراطية قيمة ومعياراً للسلوك الاجتماعي، ولذلك فإن الحد الأدنى العام المشترك في جميع الدساتير الديمقراطية يتمثل في خمسة مبادئ: أولها: الشعب مصدر السلطات. ثانيها: حكم القانون. ثالثها: الفصل بين السلطات. رابعها: حرية التعبير والتنظيم. خامسها: تداول السلطة التنفيذية والتشريعية في النظام الجمهوري وفي الملكية الدستورية عن طريق الانتخابات.

لماذا العتب...؟

إن أول ما كان يجب على هيئة تحرير الجريدة الموقرة، عند تصدّيها لاجراء حوار حول قضية جادة ومهمة ومصيرية مثل الدستور الدائم، هو استيعابها أولا ومراعاتها ثانيا للحد الأدنى من المبادئ والمؤسسات والآليات والضمانات الديمقراطية التي يجب ان يلتزم بها الدستور الدائم، تحقيقا للمكتسبات التي نص عليها النظام الأساسي المؤقت المعدل والوعود التي قطعها النظام السياسي على نفسه. فذلك خط دستوري أحمر لا يجوز دستوريا النزول عن مستوى الحقوق والضمانات التي ترتبت عليه. وكذلك فإن الدستور الدائم عليه ان يضاهي ما جاء به دستور الكويت لعام 1962 ودستور البحرين لعام 1972 الذي سوف يجري العمل به طال الزمن أو قصر، من مكاسب ديمقراطية لشعوب المنطقة. فهذان الدستوران يقومان على أساس ان الشعب مصدر السلطات، وتمت مناقشتهما واقرارهما من قبل جمعيات تأسيسية منتخبة، وهذا اضافة الى تأسيسهما على الحد الأدنى من مبادئ الدستور الديمقراطي التي سبقت الاشارة اليها.

أليس شعب قطر الواثق في الوعد المنتظر لاستحقاق الدستور الديمقراطي منذ ثلاثين عاما ـ يا جماعة الخير ـ مستحقا بعد، لأن يشارك في وضع الدستور ويقوم بمناقشته وإقراره من قبل جمعية تأسيسية منتخبة تمثل افراده وجماعاته في هذا العقد الاجتماعي، كي يكون الدستور عقداً مجتمعياً ملزماً للجميع ينظم علاقتهم بالدولة باعتبارها مؤسسة ودولة مؤسسات تقف من الجميع على مسافة واحدة باعتبارهم مواطنين «متساوين في الحقوق والواجبات العامة. وذلك من دون تمييز بينهم..» وفقا لما جاء في المادة 9 من النظام الأساسي المؤقت المعدل؟

تساؤلات محبطة بعد هذا العتب ـ والعتب يأتي على قدر المحبة ـ دعونا نقف معا على بعض تلك الأسئلة المحبطة لاستحقاق الديمقراطية في وطننا الحبيب، والتي طرحت عليّ في سياق استطلاع حول «الدستور الدائم»، وكان لها الفضل في استفزاز وتحفيز اجابتي المطولة هذه:

يقول السؤال الثالث: «هل تحبذ أن يكون البرلمان المرتقب كله بالانتخاب أو المزاوجة بين الانتخاب والتعيين؟». والاجابة: اذا كان مجلس الشورى يجب ان يكون بالانتخاب منذ 29 عاماً فكيف يخطر في البال الأخذ بالتعيين في البرلمان الجديد. كما ان تعيين أعضاء السلطة التشريعية يخل بمبدأ «الشعب مصدر السلطات» ومبدأ «تداول السلطة عن طريق الانتخاب» وهذان مبدآن من مبادئ الدستور الديمقراطي.

يقول السؤال الرابع: «هل تؤيد فكرة الاستجواب وطرح الثقة في الوزراء من قبل البرلمان كنوع من أنواع الرقابة من قبل السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية؟». وهذا السؤال مع الأسف يوحي بأن السلطة التشريعية في الدستور الجديد قد تحرم من حق مراقبة السلطة التنفيذية، وكما هو معلوم فإن مبدأ الفصل بين السلطات ومراقبة بعضها بعضا يقتضي ان يراقب البرلمان السلطة التنفيذية والمال ويقيم اداءها، ويستجوب كما يمنح الثقة أو يسحبها من الحكومة كلها وليس الوزراء فقط.

يقول السؤال الخامس: «هل تحبذ تسمية البرلمان «مجلس شورى» أو «المجلس الوطني» أو «مجلس نواب»، وهل يعطي المجلس سلطة التشريع وسن القوانين في صورة نافذة وليست توجيهات؟». وهذا سؤال ملغوم، شطره الأول شكلي وشطره الثاني في المضمون. أما التسمية فليست مهمة في حد ذاتها، المهم ان يكون المجلس لديه حق التشريع من منطلق ان الشريعة الاسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هذا اضافة الى مراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها وطرح الثقة بها، كما يجب ان تكون له رقابة على موارد الدولة ومصروفاتها واحتياطاتها والأملاك العامة عن طريق تبعية ديوان المحاسبة له وحقه في إقرار مراقبة الميزانية العامة بكل أبوابها وبنودها وكذلك الحسابات الختامية للدولة واحتياطاتها العامة. أما الشطر الثاني من السؤال فإنه يتعارض مع جوهر وظيفة المجلس التشريعي فإذا كان ليس من حق المجلس ان يشرع ويسن القوانين التي يصادق عليها رئيس الدولة وفقا للدستور، فما هي وظيفته إذاً؟

السؤال السادس: «هل تؤيد فكرة اعطاء المتجنسين حق التشريع مثل المواطن الأصلي أم لا بد من مرور مدة معينة على تجنيسه أو حرمانه من الترشيح بصورة أبدية واعطائه حق الانتخاب...؟». وهذا سؤال ينبئ عن إنكار لمبدأ المواطنة المتساوية الذي يعتبر حجر الأساس في نظام الحكم الديمقراطي. المهم ان يكون المرء مكتسباً للجنسية وفقاً للنظام الأساسي وقانون الجنسية. أما أي تمييز بين المواطنين فإنه يخل بجوهر الدستور الديمقراطي بل يتعارض مع النظام الأساسي المؤقت المعدل نفسه.

السؤال السابع: «هل تؤيد فكرة انشاء نقابات وجمعيات كنوع من الحرية واستبعاد فكرة الحزب السياسي...؟». وهذا سؤال فيه إخلال بمبدأ حرية التعبير والتنظيم وتداول السلطة فإذا لم تكن هناك مؤسسات مكتملة ومتكاملة للمجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات نفع عام فكيف يطبق مبدأ حرية التعبير والتنظيم وكيف يتم بناء الرأي العام المستنير وتتداول السلطة سلمياً بناء على برامج وأهداف تطرحها الأحزاب على الشعب من أجل تفويضها لتولي السلطة؟! الثقة والأمل أولى من الاحباط الثقة بتوجيهات الأمير والثقة بحسه التاريخي والشعبي يجعل الأمل لدى أهل قطر الصابرين الواثقين، أولى من الاحباط، كما ان المكتسبات التي جاء بها النظام الأساسي، التي لم توضع كلها ـ مع الأسف ـ موضع التطبيق، إضافة الى ما تحقق من انجازات ديمقراطية لشعوب المنطقة ببروز دستوري الكويت والبحرين.. كلها تجعلنا ننتظر بصبر ونتطلع الى استحقاق الدستور الديمقراطي الذي وعدنا به، في الدستور الدائم، وان أملنا عظيم في ان تسفر عملية التحول من النظام الأساسي المؤقت المعدل الحالي الى الدستور الدائم عن مشاركة شعبية فعالة في وضع الدستور الدائم ومناقشته واقراره من قبل جمعية تأسيسية منتخبة ليأتي مؤسساً على مبادئ الدستور الديمقراطي.

ولتكن فترة السنوات الثلاث التي حددت للجنة الحكومية من أجل اقتراح مسودة الدستور على الأمير فرصة لنا جميعاً، أميراً وحكومة وشعباً لأن نجري حواراً وطنياً مسؤولاً، وان نفتح ونكرس قنوات علنية للتعبير الحر ونؤسس نواة مجتمع مدني مكتمل ومتكامل بتنظيماته السياسية والنقابية والمهنية وجمعياته الثقافية والاجتماعية والخيرية، حتى تبدأ إن شاء الله ممارستنا الديمقراطية في ظل دستور ديمقراطي دائم وعقد مجتمعي متجدد نضاهي به دول المنطقة والدول العربية والاسلامية. والله من وراء القصد.

* أكاديمي ومفكر قطري