الرحيل عن بيروت عام 1982 مهَّد للعودة إلى فلسطين عام 1994

TT

ما لم يتم التأكيد عليه رغم مرور كل هذه الأعوام، هو أن الهدف الرئيسي للغزو الاسرائيلي للبنان في عام 1982، والوصول إلى بيروت، كان قطع الطريق على قيام دولة فلسطينية، في الأراضي التي احتلت في عام 1967، من خلال ضرب البنية التحتية لمنظمة التحرير وشطب المفاوض الفلسطيني القادر على خوض معركة المفاوضات بكفاءة تمكن الفلسطينيين من فرض حقهم بتقرير مصيرهم، إن على الاسرائيليين، وإن على المعادلة الدولية القائمة في ذلك الحين.

كانت قمة فاس الأولى قد شهدت تلك المبادرة التي تقدم بها الملك فهد بن عبد العزيز، وكان يومها ولياً لعهد المملكة العربية السعودية، لحل القضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية وقراري مجلس الأمن 242، و338، ولأن الظروف باتت مهيأة، بعد اتفاقيات كامب ديفيد التي أبرمتها مصر مع اسرائيل، لإنجاز تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة وليصبح بالإمكان وضع حد لصراع الشرق الأوسط.

ولذلك ولأن الإسرائيليين أدركوا ان استحقاق قيام الدولة الفلسطينية قادم لا محالة، فقد دفعوا قواتهم في يونيو (حزيران) عام 1982 عبر الجنوب اللبناني في اتجاه بيروت، بمجرد أن وفر لهم صبري البنا «أبو نضال» الذي كان انشق عن حركة «فتح» قبل ذلك التاريخ بعشرة أعوام، المبرر الذي يحتاجونه بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن أرغوف، وكان هدفهم الذي أعلنه ارييل شارون، الذي كان وقتها وزيراً للدفاع، ضرب البنية التحتية لمنظمة التحرير والقضاء على القيادات الفلسطينية، وبالتالي شطب المفاوض الفلسطيني قبل أن تبدأ الحلقة الثانية من العملية السلمية.

ولأن بعض الدول المؤيدة للحق الفلسطيني كانت تدرك أسباب ذلك الغزو وأهدافه وغاياته، فقد بقي السفير السوفياتي في بيروت في ذلك الحين يلح على عرفات، طيلة وقت الحصار الذي امتد لنحو ثلاثة أشهر، بضرورة الحفاظ على القيادات الفلسطينية وضرورة التحلي بالمرونة، والمزيد من المرونة لإخراج منظمة التحرير من هذه المحنة سليمة وبكامل قدراتها السياسية.

ولهذا فقد خاض ياسر عرفات تلك المعركة الصعبة، عسكرياً وسياسياً، وهو يعرف تمام المعرفة انه بعد الخروج من بيروت ذاهب إلى قمة عربية جديدة ستعقد في فاس أيضاً، وأن هذه القمة ستخرج بمبادرة عربية، أساسها ما كان تقدم به الملك فهد إلى القمة السابقة، للبدء بمفاوضات مع الإسرائيليين ومع الأميركيين أيضاً، لاحلال السلام في الشرق الأوسط وانهاء الصراع الدامي في هذه المنطقة.

لقد قاتل أبو عمار ثم ناور وفاوض المبعوث الأميركي فيليب حبيب بهدف الحفاظ على هيكل منظمة التحرير، ولقد خرج من بيروت بعد نحو ثلاثة أشهر من الصمود والحصار، وهو يعرف ويدرك أن مرحلة «جمهورية الفاكهاني» في بيروت الغربية قد انتهت وولَّتْ بلا رجعة، وأن صيغة جديدة للكفاح الفلسطيني قد بدأت وأن المطلوب بعد أن حصل ما حصل، هو اختيار موقع حيادي يكون محايداً بقدر الإمكان، ويخلص القيادة الفلسطينية من الارتهان لنفوذ أي دولة عربية ويحررها من سطوة الجغرافيا السياسية.

وهنا ولأنني كنت أحد الذين رافقوا الرئيس الفلسطيني الراحل في رحلة الخروج من بيروت، حيث أقلته السفينة اليونانية «فينوس» من العاصمة اللبنانية إلى أثينا، بحراسة بوارج حربية أميركية وفرنسية ويونانية، فإنني أستطيع أن أحدد هواجس ونوايا وتطلعات أبو عمار خلال تلك الرحلة التي استغرقت ثلاثة أيام، التي رافقه فيها أيضاً نبيل عمرو، الذي يتابع علاجه الآن في المانيا، وأحمد عبد الرحمن وصخر حبش «أبو نزار»، وعطا الله عطا الله «أبو الزعيم» وعماد شقور وعدد من الحراس والمرافقين.

لقد حزن أبو عمار حزناً كبيراً لمغادرة قاعدة، كانت بمثابة دولة داخل الدولة اللبنانية، ولقد بقي يراقب بيروت بصمت وحزن، و«فينوس» التي أقلته إلى منفى جديد تبتعد رويداً.. رويداً في عرض البحر الأبيض المتوسط، وعندما غابت آخر ملامح العاصمة اللبنانية نهائياً، هبط من فوق سطح السفينة واتجه نحو مقصورته وحيداً، ولم يسمح حُراسه لأي منا بالاقتراب من هذه المقصورة وقطع خلوة رئيسهم التي استمرت لنحو أربع ساعات.

في تلك الليلة أطلق الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان تصريحات حول حل القضية الفلسطينية، كان هدفها توجيه رسالة إلى قمة فاس الثانية التي انعقدت في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) عام 1982 وقد وصفها عرفات بانها موقف إيجابي متقدم للولايات المتحدة الأميركية.

لقد كانت فرصة للاطلاع من قائد الشعب الفلسطيني على أمور كثيرة تتعلق بآخر تطورات القضية الفلسطينية، ولقد علمنا أنه رفض الانتقال من بيروت إلى دمشق حرصاً على استقلالية قراره، بينما كان في طريقه إلى عملية السلام والمفاوضات المقبلة، وعلمنا أيضاً أن اختيار تونس مقراً لمنظمة التحرير ولعشرة أعوام مقبلة تم بعلم الإدارة الأميركية ووساطتها، كما علمنا أن رفض عرفات التوجه إلى أي عاصمة أخرى غير تونس التي غدت مقراً لجامعة الدول العربية كان بمثابة احتجاج على مواقف معظم الدول العربية خلال حصاره وحصار منظمته وقواته ولنحو ثلاثة أشهر في العاصمة اللبنانية. وبعد ليلتين وثلاثة أيام وصلت «فينوس» إلى ميناء أثينا. وأمضى أبو عمار، ومن كان معه ومن انضم إليه، ليلته في فندق قريب من مطار أثينا، وفي اليوم التالي انتقل بطائرة تونسية إلى مطار قرطاج التونسي، حيث كان في استقباله المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة وزوجته الوسيلة بن عمار وكل كبار المسؤولين التونسيين، وحشود هائلة من المواطنين التوانسة.

ومن هناك وبعد نحو عشرة أيام انتقل عرفات إلى المغرب لحضور قمة فاس الثانية التي كان يعتبرها من أهم القمم العربية العادية والطارئة.

في مطار فاس، كان في انتظاره جميع القادة والمسؤولين العرب الذين شاركوا في تلك القمة باستثناء الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وكان ذلك مؤشراً على أن الفترة اللاحقة ستكون فترة صراع متواصل بين منظمة التحرير وسوريا .

وحقيقة أن الانشقاق الذي ضرب صفوف حركة «فتح» وصفوف منظمة التحرير في ربيع عام 1983، كان قد بدأ في «فاس» حيث رفض ممثلو بعض الفصائل الفلسطينية وبعض قادة «فتح» البيان الذي صدر عن تلك القمة، وحاولوا الضغط على عرفات لحمله على رفضه، وحيث رافق الرئيس الأسد في رحلة العودة وعلى الطائرة نفسها نمر صالح «أبو صالح» الذي تزعم ذلك الانشقاق وقاد كل معاركه السياسية والعسكرية.

إن أهم ما أعطته تلك القمة لياسر عرفات أنها حمته.. بجبهة عربية عريضة ومؤثرة تضم كل الدول العربية الفاعلة والمؤثرة، من الضغط الداخلي والخارجي الذي تعرض له، والذي اتخذ اشكالاً متعددة من بينها إرباك الأجهزة الرسمية الفلسطينية، ومحاولة شق منظمة التحرير ومنع انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، وتصفية وجود حركة «فتح» العسكري والسياسي على الساحة اللبنانية، وتصفية الرئيس الفلسطيني الراحل تصفية جسدية.

لقد عاد أبو عمار إلى المخيمات الفلسطينية في طرابلس في الشمال اللبناني ليخوض معارك شرسة ضد الشقيق والعدو دفاعاً عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، وللابقاء على منظمة التحرير مؤهلة لتكون المفاوض الوحيد على طاولة المفاوضات مقابل إسرائيل، وهذا ما حصل لاحقاً عندما أصبح الفلسطينيون وفداً مستقلاً وتخلوا عن الغطاء الأردني الذي ذهبوا تحته إلى مؤتمر مدريد الشهير في اكتوبر (تشرين الأول) عام 1991، ثم وقعوا اتفاقيات أوسلو .

وإننا الآن إذ ننظر إلى الخلف لمسافة نحو اثنين وعشرين عاماً فإننا نجد أن رحلة الرحيل عن بيروت عام 1982، قد أسست لرحلة عودة عرفات إلى وطنه في عام 1994، وإننا نجد أيضاً أن ما فعله شارون عندما غزت الجيوش الإسرائيلية لبنان ووصلت إلى بيروت، فعله على مدى الأعوام الثلاثة الماضية وللغرض نفسه، وهو تغييب المفاوض الفلسطيني وقطع الطريق على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.