الديمقراطية واللغة

TT

انفض قبل بضعة ايام المؤتمر العالمي الذي عقده المجلس البريطاني ومنظمة الديمقراطية المفتوحة، وكانت لي مداخلة فيه تعرضت فيها لموضوع اللغة. ذكرت ان اللغة ليست كائنا حيا فقط، بل تعبر ايضا عن ذهنية الاحياء الذين ينطقون بها. خير مثال على ذلك اللغة الانجليزية، فهي تحمل بين جوانحها الكثير من مقومات الديمقراطية. لا يوجد فيها مثلا مذكر ومؤنت باستثناء حالات قلية كضمير الغائب. لا يوجد عندهم مهندس ومهندسة ومعلم ومعلمة وممرض وممرضة مع ما يؤدي اليه ذلك من تغيير في تركيب الجملة. لا يوجد مذكر ومؤنث في الجمادات. يعبر كل ذلك عن فكرة مساواة الرجل والمرأة التي تميزت بها الشعوب الانغلوسكسونية.

وهذه نقطة طالما شغلتني. هل تحمل دماء الانغلوسكسون جينات خاصة بالديمقراطية؟ فحياتهم البرلمانية الحالية تمتد جذورها الى القرون الأولى. فعندما انسحب الرومان من بلادهم، تولوا شؤونهم بأنفسهم. لم يحاول احدهم غزو أحد والسيطرة على احد. ولكنهم عندما تعرضوا لغزوات الفايكينغ من البحر، وتطلب الامر قيادة موحدة لمواجهة العدوان، اجتمعوا وانتخبوا ملكا عليهم يتولى المسؤولية. وحينما حاول الملك جون التفرد برأيه اجتمعوا ثانية وارغموه على توقيع «العهد الاعظم» Magna Carta عام 1253 تعهد فيه بعدم اتخاذ اي قرار بدون استشارتهم. واصبحت الوثيقة المحفوظة الآن في المتحف البريطاني اساسا لسلطة البرلمان الذي سماه الانجليز بأم البرلمانات.

نجد كثيرا من مفاهيم الحياة الديمقراطية متضمنة في مفردات اللغة الانجليزية. من ذلك كلمة Compromise التي لا يوجد لها مقابل في اللغة العربية. جرني ذلك الى صدام مع الاخوان الموفدين من العراق. طرحوا اصطلاح «حل وسط». ولكن هاتان كلمتان وليست كلمة واحدة.

والكومبرومايس لا يعني بالضرورة الوسط. ربما الربع أو الثلث من المطروح. غياب مرادف لكلمة كومبرومايس يعبر عن روح التطرف العربي. كل شيء إما أسود أو أبيض. وهو ما قاله الشاعر:

نحن قوم لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

تقبل فكرة الكومبرومايس من الاركان الاساسية للحياة الديمقراطية. تعلم هذه الكلمة يحمل المتعلم على استيعاب قيمتها. وهذا ما يحملني على الاعتقاد بأن تعلم الانجليزية (واخواتها من لغات الديمقراطيات الغربية) يساعد على تبني الديمقراطية. معظم رواد الديمقراطية في العراق، ان لم اقل كلهم، تكلموا الانجليزية، منهم عبد الرحمن البزاز ومحمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم وكامل الجادرجي. وكل من مارسوا الدكتاتورية، كعبد السلام عارف وصدام حسين وأحمد حسن البكر، لم يعرفوا هذه اللغة.

وكواحد ممن درسوا هذه اللغة في معهد المجلس البريطاني في بغداد، لا يسعني غير ان احيي هذه المؤسسة كأداة جبارة في نشر قيم الحياة الديمقراطية في سائر العالم.