الزيارات الشعبية العربية لبغداد.. هل العرب مجتمعات تحركها الزغاريد؟

TT

قبل اكثر من عشر سنوات، لم يكن التلفزيون الكويتي ليقدم مادة تدين النظام العراقي او تنتقد تهجيره لمثقفيه وشعبه. لكن ذلك حصل قبل ايام عندما بثت الفضائية الكويتية، برنامجا خاصا عن الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي، فاتحة ملف النظام والشعب العراقي معا من خلال الضيوف الكثر الذين تمت استضافتهم عبر الاقمار الصناعية. الكويت حكومة وشعبا كانت تقف مع العراق بحماس شديد، خاصة اثناء حربه مع ايران، وهو الحماس الذي كان يمنع صدور اي رأي آخر بعلنية، بل كان يحجب الرؤية عما يحدث في العراق من تجاوزات قمعية تفوق الخيال، تجلت في افقع مظاهرها بضرب قرية «حلبجة» بالسلاح الكيماوي. وعندما تناقلت بعض وكالات الانباء في حينها هذا الفعل الوحشي، استنكرته وسائل الاعلام الكويتية كخبر مدسوس لا اساس له من الصحة. وكأنما تطلب الامر كي يفتح الكويتيون عيونهم على الحقيقة، احتلال بلادهم بأكملها. لا اقول ذلك شماتة، فالكويتيون عانوا من تداعيات ذلك الغزو ما عانوه، ولا يحتاجون في ذكرى مرور عشر سنوات على تحرير بلادهم، الا التهنئة وتمني دوام استقلال بلادهم . انما اوردت هذا المثال مدخلا للحديث عن قضية المثقفين العرب وعلاقتهم بقضايا امتهم، اذ لا يزال البعض منهم، ادباء وفنانين، يمجد دكتاتور بغداد ويمنحه المباركة، بحجة انه بذلك يقف مع الشعب العراقي! وآخر الامثلة كان في انعقاد مؤتمر اتحاد الادباء العرب في بغداد، العاصمة الشهيرة في ملاحقة ونفي مثقفيها ومبدعيها. انتهى الاجتماع ولم نقرأ ان واحدا من اعضاء الاتحاد العتيد المشاركين الذين زاروا بغداد جرؤ على سؤال الجهات الرسمية عن سبب تهجير زملائهم الادباء العراقيين.. وعن سبب منع ومصادرة عشرات الكتب من نتاجاتهم التي تتوزع على القصة والرواية والشعر والبحث؟ اسئلة من النوع الذي يدخل في اختصاص الاتحاد، المنظمة المفترض بها انها معنية بالادباء العرب وقضاياهم وهمومهم، لا بالدفاع عن أنظمة هؤلاء الادباء. الجميع في حضرة الدكتاتور صمت، ربما تمسكا منهم بأصول الضيافة العربية، او بتقاليد النخوة العربية التي تلزم الفرد ان يساند اخاه ظالما! في بداية التسعينات وفي جمع صغير ضم مثقفين عربا، ثار الجدل حول موضوع الوحدة العربية، وقد صدمني في تلك النقاشات هناك من رفع عقيرته مناديا بضرورة ان تطبق الوحدة بين الدول العربية بأي شكل كان، حتى على لو كانت على جثث الناس! وحتى ان كان بلدك هو موضوع هذه الوحدة/ المذبحة؟.. سألت احدهم فاجاب بقناعة شديدة «لا مانع عندي». كدت لحظتها ابكي اختناقا من الفكرة المتوحشة، فإذا كان المثقف يفكر بهذه الطريقة، ماذا نتوقع من البقية، افرادا عاديين وافراد نظام! اود ان اقرأ في الدراسات السوسيولوجية العربية ما يفسر وقوف المثقف العربي مع الدكتاتور، وانحيازه للقمع والاعمال العسكرية بدل انحيازه لحقوق الانسان والحريات العامة. جانب من الاسباب ان المثقف العربي خرج من فترة الاستعمار ودخل مباشرة في مرحلة الايديولوجيات السائدة آنذاك، وانتمى اليها كنوع من الحماية الروحية، وصار الدفاع عن القيم الحزبية الايديولوجية اهم من اي قيمة أخرى، واستمرت هذه المتوالية حتى بين الاجيال اللاحقة. لم تبدأ التجربة العربية بعد الاستعمار بالقيمة الاكبر، بالانسان. فما نفع قطعة ارض تضم الى هذا البلد العربي او ذاك، ان كان من فوقها من البشر مجردين من انسانيتهم، ايا كان هؤلاء البشر، عربا او اكرادا او اي قومية اخرى؟

المثقف العربي عموما مخلص لافكار مسطّرة في الكتب ومرجعيات الاحداث، بل ان التعصب كلمة اشد دقة في هذه الحالة من الاخلاص، لانها تنم عن العماء وغياب الرؤية والخلط بن الامور، فيتماهى لديهم الطاغية مع شعبه، ويصير الدفاع عن مواقفه شكلا من اشكال الدفاع عن الشعب. ومن زار بغداد اخيرا اعتقد انه بجلسته الحميمة قرب صدام، قد مسح على رأس الشعب العراقي المسكين وطيّب خاطره من اثر الحصار. تعاطف زوار بغداد مع النظام بغداد لانهم تحت الحصار، مع ان لا صدام ولا احد من اهله او حاشيته باع شيئا من بيته ليعيش ويطعم اولاده، بل على العكس، في كل مشهد تلفزيوني جديد نرى الرئيس في ملابس حديثة وانيقة مستمتعا بنفث الدخان في وجه من حوله. الحصار لم يمنع الرئيس العراقي من الاستمتاع بالحياة، لكنه امات الاف الاطفال والمرضى بسبب عدم وجود الدواء. فمن الاحق بالتعاطف؟ والفنانة التي تباهت في تصريحها ان حضرة الدكتاتور ناداها بأم محمد، كنوع من رفع الكلفة والتبسط، لا تدري كم من (ابو فلان وام فلان) كانوا مقرّبين من صدام يناديهم بالقابهم هذه، ثم فتك وغدر بهم . ولو ان الفنانين محمد صبحي ورغدة كانا مواطنين عند ابي عدي وتجرآ، لا بزيارة زعيم آخر من منطلق النيات الطيبة، كما فعلا اخيرا، بل بفعل أقل من ذلك بكثير، لاصبح الجسد الجميل والعيون الملونة في خبر كان! المجتمعات العربية لم تعرف تقاليد راسخة تلزم المثقف بالقيم الانسانية الرفيعة. لقد خرجت الشعوب الاوروبية من حروبها وثوراتها في القرنين الماضيين بقيم حارسها الرئيسي هو المثقفون، والمبدعون تحديدا. وفي اي اهتزاز قد تظهره بوصلة المجتمع نحو العنصرية، تتصدى لها اولا النخبة الفكرية المثقفة. قبل عامين مثلا، خرجت مسيرة من الفنانين والكتاب في فرنسا احتجاجا على مشروع قانون يعامل المهاجرين بعنصرية شديدة. والمجتمعات الغربية لا تسامح مبدعا يقف ضد الحريات والقيم الانسانية، وما زال بعض من ايد هتلر قبل اكثر من نصف قرن، ملاحقاً بتهمة مناصرة الفاشية، حتى بعد ان صار في قبره. الموقف من هذه الحريات في المجتمعات العربية، فردي، يتعلق بكل مثقف على حدة، ولكنه ليس حالة عامة. ما زلنا شعوبا تحركها الزغاريد والاصوات العالية وطبول الحروب. وفي الميثولوجيا الشعبية صورة لافتة للنظر، وهي عن المسيح الدجال الذي سيأتي بضجيج وقرع طبول مدعيا انه المسيح الحقيقي، فيلحق به من يلحق مصدقا نداءاته. ما يلفت النظر في هذه الصورة اشارتها الى الضجيج المصاحب لهذا الدعي، وهو شيء اشبه بالضجيج الاعلامي الديماغوجي. وهذا ما اراه يفعله رهط من مثقفينا، انهم يتبعون الدجال وطبوله، ظنا منهم انه المسيح المخلص. ما زلنا شعوبا تنطلق من العاطفة والانفعال، لا من صوت العقل، والانفعال سرعان ما يهدأ مثل بركان، بعد ان يلامس سطح الارض. اما الموقف المنطلق من العقل، فراسخ، لانه ينحاز لثوابت اخلاقية وانسانية، لا علاقة لها بتغير الزمان والمكان. الدفاع عن حقوق الانسان لا يُجمد او يوقف العمل به، لان نظاما جائرا بحق شعبه، يقف في وجه اميركا، وعليه، يجب ان يتم التغاضي عن الاف من ضحاياه من الارواح البريئة! والموقف القومي لا يعني الانجرار وراء كل حرب تطلق زغاريدها في المنطقة. على المثقف ان يروج لمبادئ السلام في العالم، ومنطقته اولى بهذا الشعار، فالحروب تخبّئ في اكمامها جماجم بشرية لا تحصى، لكن كثيرا من مثقفينا لا يدافعون عن تلك الرؤوس قبل ان تتحول الى جماجم! عندما بدأ العراق حربه مع ايران بداية الثمانينات، راح سفيرها في الكويت يوزع تهديداته العلنية من ان العراق يرفض ان يقف اي عربي على الحياد من هذه الحرب «اما معنا او ضدنا، والحياد يعني انه ضدنا»، قالها غامزا من قناة من لم يهلل بعد لزغاريد الحرب من صحف ومثقفين. لكن ما الذي جناه الكويتيون من مساندتهم للنظام العراقي، منطلقين من التعصب القومي فقط؟ استدار ناحيتهم وحاول ان يلتهمهم. وياليت المثقفين العرب تعلموا درسا من اخوانهم الكويتيين، بل ان غالبيتهم كرر الخطأ نفسه، وساند الظالم لا المظلوم. الهذا الحد نحن شعوب غير عاقلة، لا يفيقها من غبشة الوهم فعل اقل قسوة من غزو عسكري! [email protected]