«التجربة» و«الوجدان»

TT

على حين وقفت الحضارة الغربية ـ بسبب نزعتها المادية والوضعية ـ في سبل المعرفة عند «العقل» و«التجربة»، فألّهت «العلم الكوني» الذي فصلت تطبيقاته عن «الأخلاق»، وحكمته «بالمنفعة الدنيوية» وحدها، حتى لقد أحلت هذا «العلم» و«العقل» محل الله والوحي والدين.

على حين كان هذا هو الطابع الغالب للحضارة الغربية، فإن حضارتنا الإسلامية ـ التي هي إبداع مؤمن أثمره وصنعه الإنسان المؤمن بدين الإسلام، وحكم تطبيقاتها بمعايير الإيمان الديني ـ قد أقامت معارفها وعلومها وثقافتها على مزيج ثمرات «العقل» و«النقل ـ أي الوحي» و«التجربة» و«الوجدان».

وفي فلسفة المصلح العظيم، الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، نجد تجسيدا لهذا المنهاج الإسلامي في مصادر المعرفة وأدوات تحصيلها.. فهذا الرجل، الذي كان عقلا عظيما، صاغ لأغلب البلاد العربية مقوماتها القانونية والدستورية، والذي تفرد ـ على النطاق العالمي ـ بوضع القانون المدني وشرحه.. والذي أبدع في الشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها إبداعه في القانون الحديث.. كان العالم الذي يحرك الإيمان وتضبط الأخلاق كل مقاصده ونواياه وإبداعاته في كل الميادين.. بل لقد رأيناه يقدم القلب والأخلاق على العقل والعلم، لأن في القلب والأخلاق المعايير الإيمانية، التي تجعل ممارسات وتطبيقات العقل والعلم عبادات يبتغي بها الإنسان وجه الله سبحانه وتعالى.

وفي هذه الفلسفة، وعنها، كتب هذا العقل الكبير: «يمتاز الإنسان عن الحيوان بالعقل. والعقل قوة مستمدة من الحقيقة الإلهية، فالاعتماد عليه اعتماد على الله.. ونحن لا نستطيع أن نعيش بالقوة العقلية وحدها، فإن العقل نفسه يشعر بعجزه عن إدراك كنه ما حوله، فلا بد من حرارة الإيمان.. فاللهم إني أؤمن بوجودك، وبصدق نبيك، وإن لي عقلا أمرتني أن أحكّمه في أمور هذه الحياة الدنيا، وها أنا أفعل.. إن تفوق الرجل إنما يكون بقلبه، ثم بأخلاقه، ثم بذكائه، ثم بعلمه، وما عدا ذلك فمظهر قيمته وقتية أو خدّاعة.. وكلما تقدمت بي السن رأيتني أحوج إلى الأخلاق مني إلى العلم والذكاء..».

هكذا كتب السنهوري ـ عظيم الإصلاح في الشريعة والفقه والقانون والقضاء واللغة والآداب ـ هذه «الحكمة الفلسفية» العالية، التي تستحق أن تأخذ مكانتها ـ مع نظائرها في كتاباته ـ بين دروس الفلسفة الإيمانية التي يجب أن يعيها عقلنا المعاصر، ويدرسها أبناؤنا في المدارس والجامعات، لنعلم ونتعلم تميز حضارتنا بالإيمان، وتميز عظمائنا بهذا الإيمان، الذي هو أعظم نعم الله على الإنسان.