الفلسطينيون في مهب الإعصار الأميركي

TT

ارتبط اسم عرفات بأبرز المحطات التي عرفتها القضية الفلسطينية ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، وتحول اسمه إلى مرادف من مرادفات التحرير والاستقلال. وإذا كنا نعرف أن هذه القضية قد اتصفت بصفات الحدث التاريخي الموصول بصراعات الاستعمار في المنطقة العربية، وأنها اتخذت في بعض مساراتها طابع الدراما الملحمية، وخاصة في الصور التي رافقت بعض مراحلها في كل من الأردن وبيروت وتونس، ثم في غزة، حيث تعرض الشعب الفلسطيني في الشتات لأقصى درجات التهجير وإعادة التهجير مشرقاً ومغرباً، كما تعرض أبناؤه في الداخل للقتل والسجن، ومختلف أصناف التنكيل والإبادة، إلا أن القضية الفلسطينية ظلت، سواء في صورها التاريخية التي أطرت قيامها وصيرورتها أو صورها الملحمية، نموذجاً للظاهرة التاريخية العصية على الحل، بحكم الشروط التاريخية وموازين القوى التي واكبتها سواء في مستوياتها المحلية الوطنية، أو في مستوياتها القومية والإقليمية والدولية. ولعل قضية بهذا المستوى من التشابك والتعقيد ولدت قيادتها المناسبة، قيادة يقع عرفات في قلبها شاهداً على مساراتها المركبة ومتاهاتها العديدة وإلى حدود يومنا هذا.

لقد استطاع عرفات وهو الحاضر والمساهم في المنعطفات التي اتخذتها القضية خلال أربعة عقود، أن يتحدث مختلف اللغات التي نطقت بها القضية، خلال مساراتها المختلفة، من دون أن يعني هذا أن مختلف أحاديثه كانت مقنعة أو أنها أنتجت الخيارات المناسبة دائما..

نحن هنا لا نشخصن القضية في رمزها، ولكننا نضع عرفات في قلبها تعبيراً عن نوعية انخراطه في الحدث الذي صنعته نخبة من الفاعلين الفلسطينيين المتمرسين، بدرجات معينة، بالعمل السياسي في الصور التي اتخذها بعد الحرب العالمية الثانية، وبناء على مقتضيات ظرفية الحرب الباردة. ولعلنا لا نتردد في النظر إلى عرفات باعتباره الصورة المكثفة لألوان الطيف السياسي التي قادت منظمة التحرير الفلسطينية، بالرغم من كل ما يقال عن انفراده بالقرار السياسي والقرارات المالية، ذلك أن متابعة نوعية العلاقة التي كانت تجمع عرفات بمختلف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية تكشف للملاحظ قدرة الرجل على تركيب المواقف والخيارات المتوافق عليها بين الجميع. ومن هنا فإنه لا ينبغي أن ننظر لعرفات خارج الأطر العامة للصورة المكبرة، التي تضم تيارات ورجالات منظمة التحرير الفلسطينية.

منذ ثلاث سنوات حوصر أبو عمار في رام الله، فعاد الوجه الملحمي للقضية، فوقفنا على قيادة محاصرة داخل مقرها، كما وقفنا مرة أخرى على مختلف صور العنف الموجهة ضد شعب أعزل من دون أن يرف جفن المنتظم الدولي، بل إن الانتفاضة الفلسطينية المقاومة نعتت بصفات «الارهاب»، وظل الجيش الاسرائيلي يواصل هدم مخيمات الفلسطينيين على رؤوس الأطفال والشيوخ والنساء.

لم يتراجع أبو عمار وواصل حضوره داخل الأرض المحتلة. وكانت تصل إلى مسامعه أصوات الحرب المشتعلة في العراق مختلطة بأصوات دبابات الجيش الاسرائيلي وأصوات صراعات الأجنحة والفصائل الفلسطينية الداعية إلى الإصلاح، إصلاح قيادة الحكم الذاتي والسلطة الفلسطينية. وقد طُرح أمر الإصلاح بكثير من الحدة في إطار تعميم الدعوة الأميركية الموصولة بمشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وهو المشروع الذي أعلنته الولايات المتحدة الأميركية وهي تحارب أفغانستان والعراق، تحت غطاء تجفيف منابع الارهاب القائمة في العالم. فيصمد أبو عمار ثم يتراجع، ينكفئ، يعاين، المصير الفلسطيني، ولعله يفكر في المخارج والآفاق، كما يفكر في الأبواب الموصدة. ويمكن أن نتصور إحساسه بخطورة النفق الذي يقف داخله، ولعله في لحظات وهنه العظمى كان يعاين المدارات الجديدة للقضية، فقد تغير الكثير من الأشياء حوله، كما تغير العالم. نحن نتصور أن تغيرات فعلية حصلت في المواقف العربية من القضية، وان هذه التغيرات اتخذت في مطلع الألفية الثالثة صوراً جديدة، لكننا لم نتمكن بعد من فحص مختلف أبعاد ما يحصل، فالحرب الجارية في العراق حولت النظر عن مجرى القضية ومآلها، لكن هذا الأمر لا يقع لأول مرة في تاريخ صيرورة القضية، فقد عاصر أبو عمار لحظات مماثلة آخرها ما جرى في حرب الخليج الأولى سنة 1990، وقد أعلن فيها تأييده لصدام حسين وخسر مقابل ذلك جوانب من علاقاته مع دول الخليج وبعض دول التحالف الذي واجه احتلال العراق للكويت.

تركت انعكاسات ما يجري في المستوى الاقليمي آثارها المباشرة على القضية الفلسطينية، وذلك في انتظار العودة إلى جدول أعمالها الذي يحدد الميثاق الفلسطيني، وتشير إليه شعارات استكمال تحرير الأرض، وعودة اللاجئين، وتأسيس الدول الفلسطينية المستقلة. فهل نستطيع مواجهة كل هذا بعدتنا الراهنة في المقاومة؟

رغم أنني لا أتصور أن موت ياسر عرفات سيؤثر في المدى القريب على مسار القضية، ورغم المؤاخذات التي تؤخذ على مسيرته السياسية، فإنه لا ينبغي أن ننسى التحولات الحاصلة في موضوع القضية. فقد تحولت عناوين السلام التي يتحدث عنها الجميع منذ اتفاق مدريد سنة 1991 إلى مجرد أقنعة، وتحول الشعب الفلسطيني إلى شعب سجين داخل أرضه ووطنه. ويحق لنا اليوم أن نفكر بصورة جديدة في المسار والمآل، لكي لا نواصل الحديث عن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بطريقة لا تطابق معطيات الراهن.

وإذا كنا اليوم بعد موت ياسر عرفات نقف في مفترق الطرق، فإن الفعل المطلوب في اللحظة الراهنة هو فعل المراجعة الدقيقة والحاسمة، مراجعة الخيارات والشعارات والمواقف، فمن السهل تمجيد الرجل وتحويله إلى أسطورة، رغم أنه كان العنوان المباشر لنخبة معينة بمالها وما عليها مجتمعة. ومن السهل كذلك وضع اليد على ثغرات مساره وسجله في السياسة والحرب، حيث يعبر السجل المذكور عن أخطاء جيل عرفات، ولهذا نقول إن أفضل ما يمكن القيام به في مثل هذه الظروف هو مراجعة الذات ومراجعة أسئلة القضية.

لقد اختلطت كثير من الأوراق، وزادها الموت اختلاطاً بحكم الموقع الاستثنائي الذي تمتع به الرجل، وخاصة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. لهذا السبب نتصور أن مطلب المراجعة يعد المحور الأبرز في جدول أعمال القضية اليوم.

ونظراً لأن العالم يتغير وموازين القوة الدولية محكومة اليوم بطور انتقالي تمارس فيه الولايات المتحدة الأميركية دوراً استثنائياً، فإن القيادة الفلسطينية الجديدة مطالبة بمواجهة مختلف أسئلتها في موضوع مأزقها الراهن بكثير من الشجاعة، وكثير من الحساب الذي لا يتردد في تركيب خيارات جديدة مطابقة لنوعيات التحديات المطروحة في العالم اليوم.. نقول هذا لا لنعلن مواقف محددة في موضوع تحرير الأرض، ولا لنعيد ونكرر المواقف الرديكالية التي تتحدث بلغة المبادئ المجردة لتبني بواسطتها الاقتناعات السياسية العامة، مغفلة أن الأخطاء السياسية والعسكرية الكبرى تعادل في قيمتها التاريخية النتائج الايجابية للخيارات المحسوبة في ضوء ترتيب الممكن والمستحيل في التاريخ.