إنها «الشرعية» يا غبي ..!

TT

حينما كان الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون يجري حملته الانتخابية الأولى ضد منافسه جورج بوش الأب عام 1992 وضع له جيمس كالفيل مدير حملته الانتخابية في مقر رئاسة الحملة لافتة كبرى كتب عليها «إنه الاقتصاد يا غبي!». وكان معنى ذلك بالنسبة للمرشح الديموقراطى أن جوهر المعركة الانتخابية، ومفتاح النصر للوصول إلى البيت الأبيض، هو التركيز على القضايا الاقتصادية لأنها هي التي تهم الناخب الأمريكي في المقام الأول، حتى ولو كان الرئيس الأمريكي قد خرج لتوه من معركة انتصر فيها انتصارا مؤزرا على صدام حسين. ونجح الرجل في الانتخابات، وقاد أمريكا خلال السنوات الثماني التالية، وحدث ذلك لأنه أمسك بأول المواضيع وليس آخرها، وعرف لب القضية وليس قشورها، وتبنى أصل المسائل وليس تفاصيلها. وبالتأكيد فإن الاقتصاد يعد واحدا من المشكلات والمعضلات العربية، ولا توجد دولة عربية واحدة حققت معجزة من معجزات التقدم الاقتصادي التي يتحدث عنها الناس، ولا كانت دولة عربية واحدة ضمن نمور وفهود العالم النامي الصاعدة. ومع ذلك فإن الاقتصاد ليس هو الموضوع العصي على الأغبياء في العالم العربي، وربما لو كان جيمس كالفيل معنا لكتب لافتة ممتدة من المغرب إلى العراق مكتوب عليها «إنها الشرعية يا غبي!»، لكي يذكر كل العرب بمعضلة المعضلات وإشكالية الإشكاليات. وما علينا إلا أن نتمعن في كل القضايا العربية واحدة بعد الأخرى، حتى نكتشف ان وراءها مشكلة الشرعية أو القبول الطوعي للمواطنين بالسلطة السياسية التي يصير لها وحدها حق الاحتكار للقوة المسلحة.

ومن الممكن أن تنظر في الحالة الصومالية حتى تجد الشرعية مفتتة ما بين جماعات وقبائل انسحب لها الناس بعد أن عز القبول بسلطة شرعية. وليست الحالة السودانية ببعيدة، فالتمرد الجنوبي، ومن بعده التمرد الغربي، وما بعده من تمردات في الشرق، كلها تفسر انسحابات متتابعة من دولة وحكومة فقدت شرعيتها لدى جماعات من المواطنين. ومن ينظر في الحالة العراقية سوف يجدها تعبر عن فشل الحكومة العراقية المؤقتة في الحصول على الشرعية من طائفة السنة في العراق. ولا يوجد اختلاف كبير في الحالة الفلسطينية، فمنذ عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الديار وإنشائها للسلطة الوطنية الفلسطينية فإن شرعية السلطة كانت دائما مزدوجة بعد أن اغترفت جماعات سياسية حق إدارة قرارات الحرب والسلام حسب أفكارها الخاصة. وعندما توفي ياسر عرفات كان هناك فى فلسطين ثلاثة أنواع من السلطة لكل منها شرعيتها: السلطة الرسمية تستمد شرعيتها من اتفاقيات أسلو وهي ممثلة في منظمة التحرير والسلطة الوطنية وكلاهما بات ممثلا بالثلاثي روحي فتوح، ومحمود عباس، وأحمد قريع. وتليها سلطة الواقع التي تستند في شرعيتها ليس على المواثيق والاتفاقيات وإنما على «المقاومة»، وهي ممثلة في منظمات حماس والجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى. وأخيرا توجد على الأرض سلطة الماليشيات التي تستند في شرعيتها على حماية العائلة والحي والشارع والحارة والزقاق، وتتمثل في شباب يحمل السلاح بلا هوية أو مقصد. وإلى ذلك، فمشكلة الشرعية ممتدة حتى في الدول العربية المستقرة نسبيا والتي لا تزال محافظة على تماسكها الإقليمي.

ومن ناحية أخرى، ونتيجة التعليم والعولمة والزيادة السكانية جاء إلى الدنيا من يشكك في أصل الشرعية الحاكمة ولا يرى فيها ما كان بها منذ عقود طويلة، وينزع عنها الحق في السلطة والثروة معا. وفي عدد غير قليل من الدول العربية فإن ظهور الحركات الإرهابية كانت له أسباب عدة.

ومن المؤكد أن شرعية «الثورة» والانقلابات العسكرية و«الكاريزما» الشخصية للزعماء لم تعد مناسبة للعرب مع بداية القرن الواحد والعشرين. وكانت هزيمة يونيو 1967 أول مسمار في نعش الشرعية الثورية العربية التي عجزت عن حماية التراب الوطني، وكان ما جرى للنظام العراقي الصدامي في بغداد هو آخر المشاهد على عقم النموذج الثوري. والقائمة بعد ذلك طويلة، ويمتد طولها عندما تغيب الشرعية ليس فقط عن النظام السياسي، وإنما عن المجتمع السياسي، والدولة ذاتها لأنها لم تعرف بعد شيئا عن «المواطنة» التي تحتضن كل مواطنيها بغض النظر عن الدين والعرق واللغة والطائفة، او لأنها في نظر عدد غير قليل من مواطنيها تفتقد أصولا غرافية يمكن القبول بها.

وهكذا كانت الشرعية المفقودة هي العنصر المحدد للحالة العربية في العموم، وبسببها فإن العرب، حكاما ومحكومين، راحوا يلومون الآخرين من الغرب والاستعمار والإمبريالية على الهشاشة السياسية العربية بحيث يكون اللوم في حد ذاته هو مصدر الشرعية الأول. وبغض النظر عن عملية اللوم هذه فإن الواقع شهد عملية مستمرة لضعف الوحدات السياسية العربية اقتصاديا واجتماعيا، ولم يكن ممكنا حدوث تنمية اقتصادية معقولة دون شرعية للنظم السياسية التى تديرها. وحتى عندما عزفت نظم عربية عديدة على أن «الإنجاز» هو مصدر شرعيتها، فقد كانت النتيجة لا تزيد عن البناء فى البنية الأساسية التى بات افتتاح مشروعاتها جزءا هاما من البرنامج اليومي للقادة العرب. وعندما تزايدت الثروة لأسباب بترولية أو غيرها من المصادر المالية كانت النتيجة حفلات مستمرة لوضع حجر الأساس للمشروعات مرة، وافتتاحها مرة أخرى.

ولكن كل ذلك خف كثيرا مع الوقت ليس فقط لأن الدخول قلت فى أوقات، ولم يعد هناك متسع لمشروعات جديدة في أوقات أخرى، وإنما لأن هذه النوعية من «الإنجاز» لم تعد مقنعة، وكافية لتوفير القبول الطوعي باحتكار الحكام لحق استخدام القوة. وربما كان السبب أن الثقافة العالمية حول الشرعية انتشرت بكثرة في الربوع العربية، وظهر أن للشرعية طرقا أخرى أكثر ديمومة من «الثورة» و« العصبية» و«الإنجاز» تستمد من الديموقراطية والأساليب الحديثة لتداول السلطة والتنافس في التعامل الإيجابي مع الشؤون العامة. ومن بين دول العالم ظهر أن هناك 74 دولة كلها تستمد شرعيتها من انتخابات نزيهة، ومجالس نيابية قادرة على التشريع وسن القوانين، ويأتي إليها القادة ويذهبون بطرق ليس لها علاقة بحالاتهم الصحية، ويزدهر فيها المجتمع المدني والصحافة الحرة.

مثل هذه المعرفة، والمقارنة المستمرة بين الأحوال العربية وأحوال العالم، والتخبط الداخلي في النخب الحاكمة المختلفة بين إدراك الحاجة إلى الإصلاح والبعد عنه بعد السليم من الأجرب، كل ذلك يجعل الشرعية قلبا للمسألة العربية، ولا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها. إنها «الشرعية» يا غبي، أليس كذلك ..!.