أمك ثم أمك ثم أمك

TT

آخر الدراسات تؤكد ان شخصيتك جزء من قدرك. فان كنت سريع الغضب شديد الانفعال تفقد السيطرة في النقاش وتتفوه بعبارات عدوانية لا يمكن ان تتفوه بها في حالتك الطبيعية فأنت ضحية تكوينك الجيني، والعلم يؤكد ذلك: ان التكوين الجيني يحدد معالم الشخصية من قبل ان نولد. اذا ضربك احدهم على خدك الايمن فأدرت له الخد الايسر فأنت تفعل ذلك بسبب موروثك الجيني الطيب. ولكن اذا شعرت بسخونة اللطمة على الخد الايمن فانطلق من دواخلك مارد الغضب وانهلت على خصمك لطما وركلا فقد ولدت وولدت معك تلك النزعة العدوانية بسبب الجينات ايضا.

وليت الامر كان بتلك البساطة . فقد كشفت الدراسات عن سر من اسرار الوجود الانساني وهو ان جينات العدوان خامدة لا تنشط إلا في حالة واحدة فقط : اذا حرم الانسان من حنان الام في طفولته. فالانماط السلوكية تتطور نتيجة لتفاعل التكوين الجيني مع الظروف الحياتية التي يعيشها الفرد.

الدراسات اجريت في جامعة ميريلاند الامريكية. وقد اجريت على مجموعة ولدت وولدت معها الجينات الخاصة بالسلوك العدواني. هذه المجموعة قسمت الى قسمين: القسم الاول منها حرم من رعاية الام منذ الولادة، والقسم الثاني عاش تجربة طبيعية في حضن الام. بعد ستة اشهر اصبح جلياً ان صغار القسم الاول كانوا اكثر ميلا للسلوك الانفعالي العدواني، والقسم الثاني اكثر هدوءا وقدرة على التعامل المتوازن رغم التشابه الجيني بين اطفال القسمين.

وباستمرار الدراسة والبحث تبين ان الأمر يتعلق بمستويات مادة السيروتونين في المخ. هذه المادة الكيميائية هي موصل جيد لحالة انسجام واطمئنان، اذا ارتفع معدلها شعر حاملها بصفاء وهدوء حتى في المواقف الاستفزازية، وان قل المعدل زاد الميل للشجار والاعتداء. واستخلص العلماء ان فصل الطفل عن الام يؤدي الى انخفاض نسب السيروتونين ومن ثم يؤدي الى سرعة الانفعال والاشتعال. وبذلك يصبح وجود الام الحانية هو الشريط الحدودي الذي يفصل بين القوى الطيبة في النفس والقوى غير الطيبة.

وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ان الجنة تحت اقدام الامهات.

التجارب العلمية، والحديث الشريف، تشير الى ان دور الام التي تسعد بأمومتها وتضعها على قائمة الاولويات الحياتية ، فوق الطموح والمال وصحبة الخلان، هي الأم القادرة على نزع فتيل قنبلة الجينات الخبيثة بالرعاية السليمة والحنان بحيث يكبر الولد ويتطور الى كائن اجتماعي متزن وسعيد ذي سلوك طبيعي حتى لو تعرض للمحن والازمات.

لا احد يدري كيف تؤثر نتائج تلك الابحاث العلمية على المجتمعات. ولكن خيالي حملني بعيدا الى مستقبل يراقب فيه سلوك الاطفال في الفصول الدراسية فإن وجد طفل مشاغب وعدواني يضرب هذا وينتزع دفاتر ذاك صدر أمر باستدعاء الام وتقديمها لاستجواب وربما إصدار أمر باعادتها الى مقاعد الدراسة حيث تتعلم كيف تكون أما صالحة للأمومة.

الطفل العدواني ضحية جيناته وان لم ترعاه امه اصبح ضحية امه ايضا ثم كبر وكبر معه عدوانه وربما تزوج فتنضم زوجته الى قائمة ضحايا عدوانه وربما انجب ولا يسلم اولاده من جيناته الخبيثة.