إلى متى صمْتُ علماء المسلمين ؟

TT

بث أبو مصعب الزرقاوي، زعيم شبكة من المجموعات الإرهابية المتفرعة من «القاعدة» في العراق، شريطا صوتيا على موقع في الإنترنت ، يهاجم فيه علماء المسلمين ، لما اسماه بتخليهم عنه ، وصمتهم على التطورات في العراق. والزرقاوي لا يحمل من المؤهلات سوى الخبرة التي تعلمها في افغانستان ، للمفارقة المحزنة، على يد المخابرات الأمريكية CIA ، واجهزة مخابرات عسكرية غربية ، وظفت الطاقات التدميرية له ولشخصيات كأيمن الظواهري واسامة بن لادن وغيرهم من شباب ، إما عاثوا في الأرض فسادا أو كانوا مطلوبين للعدالة، إما لجرائم تحت القانون الجنائي، او لتورطٍ في الإرهاب، فيما كانت اجهزة الأمن في بلدانهم قد سعدت بالتخلص من مشاكلهم «بتصديرهم» الى أفغانستان، وفي الوقت نفسه ارضت حكوماتهم الحليف الأمريكي ، بتقديم متطوعين لنصرة المعسكر الغربي ضد المعسكر الشيوعي في واحدة من آخر المعارك الساخنة في الحرب الباردة.

ولا علم لدي ، او لعدد من المتخصصين في الموضوع ، بوجود أي مؤهلات للزرقاوي ومن على شاكلته من البنلادنيين والظواهريين، بشؤون المجتمع المدني، ونظم الحكم المدنية او الشمولية، ناهيك من علوم الدين والبلاغة والفقه واللاهوت وتفسير الدين.

لكن لديه بالفعل القدرة والتدريب الاستخباراتي الغربي، والقتالي الكفؤ ، على التمكن وعصابته من الهرب من الفلوجة ، قبل ان تدخلها القوات النظامية العراقية مع قوات التحالف. ولديه ايضا القدرة على التأثير السيكولوجي على بسطاء الذهن، واستغلال حماستهم بإقناعهم بتدمير الذات، في عمليات انتحارية ضد منظمات الإعانة الإنسانية، او بالتضحية بأنفسهم في معركة غير متكافئة ، لمجرد تعطيل تقدم الجيش داخل الفلوجة ، ولمنح الزرقاوي وقتا أطول للهرب من المعركة ، التي كان نشاطه السبب الرئيس في اندلاعها.

من «مؤهلات» الزرقاوي التي يتعرف عليها الجميع ، وحشية وقسوة باردة، من النادر ان تجدها لدى الكائنات الحية، مثل التباهي باشرطة فيديو يقطع فيها رقاب بشر ابرياء ، او اختبائه واعوانه في مساجد، ومدارس ومستشفيات، أي قسوة هذه التي تستخدم المدنيين من نساء وأطفال كدروع بشرية، من دون ان يتحرك له ضمير او تهتز له مشاعر انسانية. بل اقاموا وراء هذه الدروع البشرية معامل للأسلحة البيولوجية والكيماوية عثر عليها الأمن العراقي ، بعد دخول المدينة التي احتلها الزرقاوي وجماعته لشهور طويلة.

لم هذا .. ولا تعرف للزرقاوي اية خبرة، دراسية او عملية، او مواهب تؤهله لتوظيف المفردات اللغوية التي تضمنها شريطه الذي يهاجم فيه الفقهاء وعلماء المسلمين، الذين تبحر اكثرهم في دراسة علوم الفقه والدين، أكاديميا ولاهوتيا، في محيط فلسفي يمتد من الأزهر وحتى جامعتي اكسفورد وكمبردج.

ولا نعرف ايضا للزرقاوي، وبقية «زعماء» القاعدة ، أي مؤهلات تقدم تفسيرا معقولا للغة استخدمت في الشريط مثل: تخليهم (أي العلماء) «عنا في احلك الظروف». وبصرف النظر عن العبثية اللغوية ، فمفردة (احلك) لفظ مقارنة بمعنى أكثر عتمة او أكثر ظلاما، فما هو الموقف الآخر او الظروف الأخرى الأقل عتمة ؟ كما ان استخدام ضمير ملكية الجماعة «نا» في «تخليهم عنا» امر محير للعقل. فمن المقصود؟ وهل يمثل الزرقاوي احدا عن طريق انتخابات او أي وسيلة اخرى للتمثيل؟

إذا كانت الظروف «الأحلك» تشير الى الفلوجة او العراق ، فالمقولة عبثية في تناقضها ; فالزرقاوي وجماعته الذين «تخلوا» عن الفلوجيين في المعركة «الأحلك» التي تسببوا فيها، ليسوا فلوجيين او عراقيين، وانما اجانب متطفلون.

الزرقاوي، وانصار الإسلام ، والتوحيد والجهاد، اجانب لم يدْعُهم، الى الفلوجة او غيرها، احد من ابناء الأمة العراقية التي ادعى شريط الزرقاوي ان «آلافا من ابنائها يذبحون بايدي الكفار العراقيين» بسبب صمت علماء المسلمين.

وأكره ان اتفق هنا ، مع جزء من محتوى شريط الإرهابيين ، في تحميل بعض مسؤولية وقوع الضحايا في العراق لصمت الجانب الأكبر من علماء المسلمين، لكن من زاوية مختلفة تماما.

فقد صمت اغلب علماء المسلميين على ارهابيين يقتلون البشر ويدمرون ممتلكاتهم ، ويخطفون الناس ويذبحونهم ببشاعة امام الكاميرات ، ويعيثون في الأرض فسادا، تحت شعار «التوحيد الإسلامي والجهاد».

الأغلبية الصامتة من المسلمين تستاء من تشويه الزرقاوي واختطافه لعقيدتهم . المسلمون يريدون رأيا فقهيا واضحا لا غبار عليه في هذا الإرهاب.

حان الوقت ان يجتمع علماء المسلمين، اقليميا وعالميا، في كل مؤسسة اسلامية، سنية كالأزهر، او مرجعيات شيعية في النجف او قم، او في مجالس فقه مذاهب اسلامية اخرى، ورفع اصواتهم ضد الإرهاب والخروج بفتوى موحدة ، بدلا من ترك الفتاوى لكل من هب ودب . فإرهابي مطلوب للعدالة، بتهم القتل والاختطاف والتدمير والارهاب وزراعة المخدرات وتهريبها، والسلاح كابن لادن، اصبح يصدر الفتاوى من دون ان تكون له مؤهلات اكاديمية او فقهية او شرعية لذلك.

المسلمون ينتظرون فتاوى واضحة، من علماء المسلمين، تحرم القتل لأي سبب من الأسباب، تحرم الصعود فوق المآذن وإطلاق النار منها، او من نوافذ المستشفيات ، او من مساكن المدنيين الأبرياء، فتحولهم هدفا لقوات التحالف.

المسلمون تواقون ايضا لرأي فقهي جماعي في «الخوارج» من علماء ازهر مؤهلين، على الإجماع الفقهي، والمصابين «بإسهال الفتاوى» على شاشات الفضائيات في برامج رخيصة يصدرون منها «احكام الإعدام الجماعية» على العراقيين بالجملة، مثل اجازة احدهم عبر شاشات احدى الفضائيات الخليجية الصاخبة السمعة، قتل المدنيين العراقيين «لتعاونهم مع الاحتلال».

المطلوب من عموم علماء المسلمين الآن الخروج عن صمتهم، واصدار الفتوى الواضحة بإدانة الفعل، والقول الذي يبرر الفعل. والمطلوب ايضا وضع مجموعة من الضوابط ، تجعل من شبه المستحيل على عالم يرتدي عمامة الأزهر ، ان ينفرد او «يستفرد» بمئات الآلالف من المشاهدين المسلميين ، ويغرس العنف في عقولهم بفتاويه الشريرة ، وهم آمنون في غرف جلوسهم التي يقتحمها عليهم من شاشات الفضائية ، التي تضعه في منبر يناطح منصة ادولف هتلر للعروض العسكرية التي اطلق منها «فتاوى» النازية، بإبادة الأجناس والتيارات السياسية ، وحرق العواصم وهدم المدن لفرض ايديولوجيته الشمولية «الأرقى» في عقله المريض ، من افكار وسلوك ومعتقدات شعوب وأعراق وجنسيات.

فقد وجدت الأيديولوجية الهتلرية الشمولية التفسير والمبررات الذهنية لقبول فكرة القضاء عليها وأبادتها بقسوة، بعقل بارد وهدوء لا يماثله الا هدوء وبرود الزرقاوي ، وهو يذبح عجوزا بريطانيا يعمل في مشروع مدني عراقي، او متطوعا ايطاليا مع الصليب الأحمر حمل الأطراف الصناعية للمعوقيين العراقيين، او ببرود الأعصاب الذي يرسل به انتحاريا يفجر نفسه في رجال الإسعاف والبوليس العراقيين استجابة لفتوى «هتلرية» ، عبر شاشات الفضائيات من ازهري «خارج» عن إجماع العلماء.

والى أن نسمع الفتوى الجماعية السلمية من علماء المسلمين وما يقترحونه من وسائل لضبط انفلات «الخوارج»، وانفرادهم بفتاوى القتل، فسيبقى هؤلاء العلماء مسؤولين بصمتهم عن إزهاق ارواح الأبرياء في العراق، وغير العراق.