لا باميا بدون ثوم

TT

بعد الحاحي وتشجيعي للأديب الفلسطيني ربعي المدهون في ان يترجم روايته وسيرة حياته «طعم الفراق» إلى الانجليزية، دخلنا في موضوع اقبال القراء على قراءة سير الطفولة. أصبحوا يفضلون قراءة سيرة طفل غلبان على سيرة عظماء القادة والساسة. قال لي لماذا لم تحاول كتابة رواية طفولتك؟ لماذا كتبت في شتى المواضيع، شتى الحكايات، ولم تكتب قصة طفولتك؟

قلت له يا اخي انت فلسطيني وقضيت طفولتك في مرحلة ضياع بلدك وتسلط الاسرائيليين عليكم وكل ما مررت به من مصائب في ظل اليهود واخوانك العرب. انا قضيت طفولتي في بغداد عندما كان الانجليز يصرفون شؤون العراق. وكانت ايام خير ورايقة وفايقة. كنت في الخامسة من عمري العب في الطريق ولا أحد يخطفني أو يعتدي علي أو يسرق دراجتي. والدي نائم في البيت آمنا مطمئنا علي وعلى كل اخوتي وأهلي. حضن المخدة وأغمض عينيه وهو يقول حكمنا الانجليز واحسنوا حكمنا فنمنا. والأيام كانت ماشية على هذه الوتيرة. ما اختلف يوم عن آخر الا في يوم نطبخ باميا ويوم باذنجان. ما الذي اكتب عنه في طفولتي يا عزيزي ربعي؟

حكايتها اشبه بحكاية سلطنة عمان في هذه الأيام. لا يكتب عنهاالكثير، حتى في حفلة يومها الوطني الذي احيته سفارتها في لندن قبل أيام وجدت ضيوف الحفلة يتحدثون عما يجري في العراق وفلسطين والسودان وكل بلدان العرب إلا البلد التي جاءوا للاحتفال بها. فما الذي يتكلمون عنه؟ لا أحد يخطف احداً هناك أو يذبح امرأة تخدم بلدهم. الجميع جادون في العمل والنهوض بتواضع وحكمة. لا يقطعون رزق يومهم بقتل السياح أو يدمرون مستقبلهم بتدمير مرافقه ومؤسساته أو يتصورون ان بلدهم سيصبح دولة عظمى بقلب نظامها وحكومتها. انه بلد يذكرني بسويسرا. لا شيء يحدث فيها. متى قرأنا أي تقرير عن سويسرا. للأوروبيين مثل مشتق من تراثهم الموسيقي يقول: «للشيطان احسن الألحان» في طفولتي لم يكن الشيطان قد ركب العراق بعد فلم يترك لي ما اكتب عنه. ولكنه بعد ان تقمص بشوارب صدام حسين، فهات يا ولد قلمك واكتب. وهو ما فعلت في روايتي الأخيرة «من جد لم يجد» كلها من الحان الشيطان. حتى الانجليز اخذوا يزهقون من صحفهم اليومية. تفتحها فلا تجد فيها غير أخبار العراق.

هذا في الواقع مثل بدن الانسان. لا تعرف منه غير العضو المريض. أنا مثلا لا اعرف أي شيء عن القلب وتركيبه وعمله. لماذا، لأني لا اشكو من شيء في قلبي، ربما فقط بعض التقلص في الحب والغرام. ولكنني اعرف عن المعدة ربما اكثر من أي طبيب، فلي فيها قرحة عذبتني كل حياتي. جعلتني افتح الجريدة اولاً ودائماً على آخر الانباء المتعلقة بالمعدة. يبدأ الآخرون بانباء دارفور أو الفلوجة أو آخر فضائح الفساد في السلطة الفلسطينية، انا ابدأها بقراءة آخر التقارير عن معالجة المعدة. لا حديث بدون مشكلة مثلما لا بامية بدون ثوم ولا ثوم بدون رائحة.