التفاؤل والصراع الفكري

TT

هل خان المثقف العربي دوره التاريخي؟ وهل فشل في جميع مهامه منذ عصر النهضة ؟ والأهم من ذلك هل أصبح عدميا متشائما ينشر القنوط بدلا من أن يزرع بذور التفاؤل؟

بداية، لا بد أن نفترض أن ذلك المثقف حين يكتب بكثافة عن السلبيات لا يعني أنه متشائم بقدر ما يشير الأمر الى ان السلبيات هي الكثيفة، أما مساحات التفاؤل فتزداد رغم كل ما حولنا من عنف ودم وفوضى وقلق ندرك أنها جميعا من مؤشرات اقتراب الفصل ما قبل الأخير من مخاضات طويلة عبرتها شعوب قبلنا لتثبت أنها جديرة بالحياة الكريمة والحرية.

من كان يصدق قبل سنوات عشر أن قطر وعمان ستتسابقان في منح المناصب الرفيعة للنساء، وان دبي سيكون فيها أضخم مدينة في الشرق الأوسط للإنترنت والاعلام، وأن البحرين ستخلو من سجناء الرأي، والسعودية ستجري فيها انتخابات بلدية ؟

وقبل أن تسأل نفسك لماذا يستشهد كاتب غير محافظ بأمثلة تفاؤلية من دول محسوبة على المعسكر المحافظ دعني أوضح بأن خلاصة ما تعلمته البشرية في صراعها من أجل التقدم هو أن التقدم لا يحصل الا حين تقلل الدول من استخدام القوة في حسم صراع الأفكار، وأن الدول الاكثر تقدما في العالم اليوم هي التي سبقت غيرها في إلغاء الرقابة على الأفكار وتحديدا الدول الاسكندنافية التي اكتشفت منذ القرن السابع عشر أن الافكار الحرة كالطيور لا يمكن حبسها ولا ايقاف تناسلها مهما تم اعدام الملايين منها.

هذا الدرس لم يكن مستوعبا في ما كان يسمى بالمعسكر التقدمي العربي الذي ارتبط، لضرورات سياسية، بالستالينية وحمل معه ارثه القومي والأصولي اللذين لا يمكن اتهامهما بالوقوع في غرام حرية التعبير ولا بحب الديمقراطية، وربما لم يكن هذا الدرس مستوعبا في الدول المحافظة ايضا، لكن حظ تلك الدول من التسامح كان كبيرا لذا لم تدخل مجتمعاتها ـ قبل القاعدة ـ في تصفيات سياسية جسدية كما كان يحصل في سورية والعراق والجزائر، ولم تتكثف فيها أجهزة الأمن الا بعد الطفرة النفطية بكل ما حملته من أمم وشعوب وجحافل غريبة عن المنطقة حملت معها ثاراتها وأفكارها وصراعاتها.

الامارات العربية المتحدة فقدت وزير خارجيتها سيف غباش في المحاولة التي نجا منها عبد الحليم خدام في السبعينات لانها لم تقرر منذ نشأتها أن تكون دولة بوليسية، وتلك مسألة ليست صعبة، فالكثير من الدول دججت نفسها بالبوليس مع ان امكانياتها المادية أقل بكثير من امكانيات الامارات.

ان المشكلة التي تعيق التقدم ليست في البوليس فالأمن ضروري لكل دولة، بل في العقلية البوليسية التي تتلصص وتقمع وتقطع ألسنة وتكمم أفواه وتصير ملكية أكثر من الملك وأميرية أكثر من الأمير، وهذه العقلية لا تجدها بين البوليس فقط بل هي وباء يمتد وينتشر في ساحات الأدب والفكر والجامعات ومختلف منابر التنوير التي تقود عادة عمليات التغيير الاجتماعي بسلم وسلاسة حين لا يوجد من يمنعها من حسم معارك صراع الآراء بالنقاش والكلمة الطيبة.

هذا في ما يتعلق بتبرير الأمثلة، فماذا عن بقية الأسئلة؟

لقد فشل المثقف العربي في بعض مهامه وأنجز بنجاح مهام أخرى أما خيانة الدور التاريخي فاعتقد انها تهمة مثبتة لأن الأغلبية إما تحالفت مع القوى الأجنبية أو مع السلطات القامعة، فلم تكن مستقلة كما تقضي نزاهة الفكر ولا طليعية رائدة التزاما بوعودها وأدبياتها المكتوبة.