بيروت بيروت : لعبة المليون مواطن

TT

يخشى ان تكون حال «تظاهرة المليون» التي حشدت لها قوى السلطة والموالاة، ما أمكنها من رؤوس وأعداد، للدفع بها إلى شوارع بيروت اليوم، احتجاجاً على القرار 1559 هي نتيجة التباس خطير. وقد يستخدم تحريك المليون كإثبات إضافي، على أن لبنان الرسمي ينحو صوب توتاليتارية، تستحق من هيئة الأمم المزيد من الحذر. فالتجمهرات الشعبية المدسوسة سلطوياً، هي بعض من تركة السياسة الصدّامية وتكتيكات الديكتاتور الروماني المخلوع تشاوتشسكو، ومما تخلى عنه العقيد معمر القذافي، وقد اكتشف أنها لا تنطلي على حكّام الكوكب الحاليين.

فلا يكفي أن تكون مع القرار 1559 ولا تبالي، أو ضده وتعاند وتهوّل ولا تداري، فقد وصلت الأمور في لبنان إلى أبعد من القرارات والتظاهرات، والتراشق بالبيانات والخطابات، والاحتكام إلى أميركا أو شد الظهر في سوريا. لأن الاحتقان من الظلم والفساد والفوضى، لن تنفع معه بعد اليوم سياسة «صفّ الكلام» و«تنميق العبارات» والمزايدة بالوطنية. فالبلاد على شفير انقسامات مروّعة، بحيث لا تلتقي المعارضة إلا على مسافة فاصلة من بعضها البعض، يحرص كل طرف فيها على تمايزه واختلافه، ولا يلتئم شمل السلطة ويقوى ويطفو على السطح، من غير هتافات ويافطات. وأن يرى الرسميون اللبنانيون أن مؤسسات الدولة التي خربوها وكأنما حلّ بها زلزال، لم تعد قادرة لهشاشتها على احتوائهم، أو تأطير خياراتهم ومنحهم المصداقية الدولية الكافية، وأنهم من الضعف وقلة الحيلة، بحيث يحتاجون الشوارع مكاناً إضافياً للتعبيرعن كليشيهاتهم، وإثبات قوة عضلاتهم، فهذا لعمري من نكد الدنيا على رجل القرار.

ويخشى أن تكون تشكيلات المعارضين ومعهم تنويعات الموالين، هما مجرد بنيتين وهميتين بسكوتيتين لشرذمة لها أول، لكننا لا نلمح لها آخر. البعض «يضحك في عبّه» احتفاء بهذا المخاض الذي من رحمه لا بد أن يولد لبنان الجديد، وفئة أخرى لا ترى في الهيجان والهيجان المضاد، غير صورة مشابهة لتلك التي عاشها البلد عشية حرب أهلية دامت ما يقارب العقدين، وذيولها ما تزال تجرجر المواطنين إلى ضبابية لا يفقهون أبجدياتها.

فالمشهد لا يبدو مشرقاً حين ترى الكمّ الهائل من الفجوات والحفر التي تفصل معارضاً مثل وليد جنبلاط عن آخر من نمط ميشال عون. ثمة معارضات تأخر الوقت كي تلتقي أو تتفاهم، على ما هو منتصف الطريق. فيما الموافقون على كل ما يأتي من سوريا بحذافيره، يسرّون لبعضهم البعض بهواجس واعترافات، تخاف أن تخرج إلى العلن، مخافة أن تفضح انقسام الصفّ. ثمة في المأزق اللبناني الوطني ما يمكن أن يسمى «إثم إضاعة الوقت»، ورغم أن اللعب المجاني، في الوقت الضائع، في السياسة العربية الراهنة، وهي تحت المجهر والمراقبة، ممنوع ومحظور لا بل خطير، إلا ان السلطة ما تزال تتسلى بمقولاتها القديمة الجديدة، وحيلها الثعلبية التي أكل عليها الدهر وشرب، والمغتاظون من هذا التسلي الرديء، لا يملكون سوى أساليبهم الاحتجاجية التقليدية. وبكلام أوضح فالجميع تنقصه الرؤى الابتكارية الجهنمية، التي تخرج لبنان من عبثية مع أو ضد القرار 1559،أو مهزلة الاختيار بين أميركا و سوريا، من دون أن تمتلك حق الدفاع عن لبنانيتك أو مواطنيتك الصغيرة المهدورة باسم السياسة أو العروبة، أو أي شيء آخر لا معنى له، حين تكون إنساناً مغبوناً أو فقيراً محروق القلب.

ثمة خبر صغير في جريدة، قال منذ أيام، إن مرجعاً سابقاً اشترى سيارتي مرسيدس من معرض السيارات الذي أقيم في مركز «بيال» للمعارض، بمبلغ مليون و700 ألف دولار، والأخبار على هذه الشاكلة تملأ الأفواه، بينما تخوي بطون كثيرة وتتضوّر جوعاً. وهذه أحاديث لا علاقة لها بالقرار الأممي المشؤوم أو الممدوح، ولا صلة تربطها مباشرة بالإمبريالية أو الصهيونية أو المشاعر القومية، لكنها حقائق تأكل من هيبة الحكّام وتجرّم ضمائرهم، وطرقهم الملتوية في تزليم شلل تغتني، كي تحمي الكراسي وأصحابها، الذين سبقوهم إلى موائد النعمة المحرّمة. و«تظاهرة المليون» أو الألف، التي تحاول أن تقول بأن اللبنانيين يرفضون التدخل الخارجي لا يحق لها، في سياق المفهوم الحالي للاستقلالات، أن تقفز فوق الوقائع وتطالب بتمادٍ في تدخل جارة عربية شقيقة متهمة بالإفساد، إلا إذا كانت هذه الفئة هي مع نفسها وضدها، في آن واحد.

ولربما كان على العروبي الحق في مطلع القرن الحادي والعشرين، أن يتوقف أولاً عن رفع شعار «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، متمسكاً بضرورة أن يردعه عن ظلمه، كي يحفظه من اعتداءات الآخرين المتربصين به شراً. «فمن الحب ما قتل» وكفاناً ما يرتكبه بحقنا المقبلون إلينا من قارات أخرى، ولنحقن دماء بعضنا بعضا بقليل من العقلانية، وفيض من الحوار التقني والمتقن المقنن.

[email protected]