غداً لناظره بعيد

TT

ولد العربي في الفلاة. اما في الصحراء او في الجبل او في الترعة او على شاطئ البحر. وكانت الشمس هي ساعته. يفيق معها ويرتاح مع غروبها ويصوم لظهور الهلال واكتمال البدر. ولذلك كان كل شيء عنده نسبيا ولا يحتاج الى الدقة. وعندما تعرف الى الساعة الآلية التي تضبط الوقت شعر انه ليس في حاجة الى عقرب الدقائق وعقرب الثواني. فهو يعطي المواعيد «حوالي الرابعة تقريباً». او «متى شئت بين الخامسة والسادسة». واذا اعتذر قائلاً: «لعلي تأخرت قليلاً عليك». او «عسى لم اجعلك تنتظر طويلاً».

وألاحظ في الطائرات العربية ان القبطان يقول: «سوف نهبط بعد قليل». بينما يقول القبطان البريطاني «سوف نهبط في السادسة ودقيقتين. وهناك تأخير 7 دقائق على المدرّج قبل الوصول الى باب النزول». والسبب ان البريطاني اعتاد على انه لا يملك الوقت ولا يمون على الزمان. الحافلة لها وقت والمترو له وقت والتأخر عن العمل له عقاب والوقت الاضافي له مكافأة. وذهلت مرة وانا اراقب مواعيد القطار في اللوكسمبور 3.2، 5.1، 3.33! وبدوت مثل فلاح في المدينة كلما اطل القطار على موعد الثانية ونزلت منه الناس بالصف مثل نفناف الثلج. وتأخرت مرة دقيقة واحدة عن الطائرة السويسرية، فاغلقت المضيفة الباب في وجهي، فاعترضت قائلاً: «لكنها دقيقة واحدة». فمضت تدفع الباب وهي تقول: «هذه الدقيقة صنعت سويسرا». وذات مرة ذهبت اقابل وزير خارجية فرنسا كلود شيسون في الكي دورسيه. وكنت قد امضيت سحابة النهار على الطائرة لكي لا اتأخر عن الموعد. وجعلني مدير مكتبه انتظر ربع ساعة. ثم أطال الانتظار، فوقفت معتذراً ومشيت، وقلت للمدير «تصور لو كان المتأخر عن الموعد عربياً». وخرج كلود شيسون نفسه يعتذر ويدعوني الى الدخول واضعاً يده على كتفي كأنه يعرفني من زمني.

معظم الرحالة الذين كتبوا عن الصحراء، ارادوا البقاء فيها لأن الوقت ملك الرجل. لا مواعيد ولا معاملات رسمية ولا حفلات كوكتيل. انت والسماء والارض. وعندما تخرج الناس في إجازات الآن تقول في صوت واحد انها ذاهبة للارتياح من عبودية الساعة. اما في العالم العربي فساعات «الدوام» في الادارات الحكومية مثل ساعات الجدران في القصور: للزينة. ولا يطيب شرب القهوة والشاي كما يطيب في الوزارات. وفي الماضي كانت الوظيفة ضمانة العائلة مادياًَ، اما الآن فهي ضمانة رب العائلة من حيث راحة الاعصاب والهدوء والاطلاع على الصحف بدقة وطول اناة وتبصر عميق في احوال العالم.

لا تزال فينا آثار المجتمع الزراعي. وفي بعض محطات التلفزيون اللبنانية يتغير موعد نشرات الاخبار كل اسبوع او كل يوم، نسبة الى طول البرنامج الذي يسبق او يلي. ولا اعتذار او أخذ في الاعتبار. فنحن اناس نملك الوقت. لم نصنع ساعة او قطاراً او طائرة لنعرف معنى الدقائق والثواني. ولذلك يضيع الزمان في الوعود ويصدأ التاريخ في الانتظار وترفع دوائر الحكومة شعاراً قومياً واحداً: تعال بكره !