صراع الأجيال: جيل عباس يُؤجل جيل مروان

TT

لم أغير رأيي، فالسياسة عندي مؤامرة مستمرة. إذا جاملتُ الحرفة السياسية، قلت ان السياسة مناورة دائمة. المؤامرة هنا مجرد مناورة يمارسها الساسة لاثبات الوجود، وتحقيق الذات، ونفي الآخر وتغييبه.

المناورة السياسية، إذن، هي القدرة على الحركة والمبادرة. أن تتكلم كثيرا، ربما لكي لا تقول شيئاً، يكفي ان ترفع قدما وتضع الأخرى، حتى ولو ظللتَ في المكان، لمجرد ان تشعر الآخرين والمنافسين بأنك تتحرك.

عندما حوصر عرفات فقد القدرة على الحركة والمناورة. لم يعد قادراً على ممارسة ديبلوماسيته، والسيطرة على أجهزته، والتواصل مع جماهيره، وكان لا بد من ترحيله وتغييبه جسديا بمهابة واحترام. مناورة الترحيل كانت من السرعة بحيث لم تسمح بمعرفة سر الوفاة الطارئة: هل مات ميتة طبيعية، أم اقتضت المؤامرة تمويته بطريقة أخرى؟

عندما حان الرحيل والتغييب، اقتضت المناورة أن يتقدم جيل عرفات بسرعة للاستيلاء على المؤسسة السلطوية والثورية. استُدعي محمود عباس فورا من المخزن المركون فيه الى دائرة الحركة. عابوا على عرفات استئثاره بالسلطة والمناصب، فإذا بهم يقلدونه في ازدواجية احتكارها: عباس لرئاسة السلطة والمنظمة، ونائب لرئيس «فتح». فاروق القدومي لزعامة «فتح» ورئاسة اللجنة السياسية في منظمة التحرير. أحمد قريع لرئاسة الحكومة وجنرال مدني لقيادة الأجهزة الأمنية.

كان استيلاء جيل عرفات على السلطة باهرا وصاعقا، بحيث شل قدرة جيل مروان على الحركة والمناورة. تم الانتخاب السريع بإجماع بلا منافسة ديمقراطية! كيف؟ لا أدري. تم حصر المقاومة في الحد الأدنى للاعتراض. وحتى مروان رمز الجيل الجديد تم اسكاته أو ارضاؤه في سجنه، في عملية مساومة أعلن عن نتائجها، ولم يُعلَن عن مضمونها.

وهكذا، نجح جيل عرفات وعباس في تأجيل جيل مروان، ثمة عوامل كثيرة ساهمت، في تقديري، في نجاح القديم وتأجيل الجديد. تم القاء الثقل الأوروبي والأميركي والدولي وأيضاً العربي وراء جيل عباس. وأسرف الثقل الضاغط عن إكراه اسرائيل شارون لتقديم «تنازلات» تجميلية للعملية الانتخابية المقبلة، الاقتراع الشعبي ضروري جدا لإهالة الشرعية الديمقراطية على الجيل القديم الذي يفتقر الى الشرعية الشعبية التي تمتع بها الزعيم المرحَّل.

لكن لماذا صوت العرب والناخبون الدوليون لجيل المؤسسة والطبقة «الحاكمة»، قبل ان يصوت له الناخبون الفلسطينيون؟

لأن النظام الدولي والعربي لا يستطيع ان يتحمل انفجاراً أكبر في الشارع الفلسطيني، قبل أن يتم تطويق الانفجار الملتهب في الشارع العراقي. لا أعني اتهام أحد بالمؤامرة، انما أقول ان «المصلحة» العربية والدولية اقتضت تغليب جيل عباس/ قريع الذي نعرفه، على جيل مروان الذي نخشى من عواقب الاعتراف به والتعرف عليه.

إذا كان الجيل القديم يفتقر الى الشعبية العرفاتية، فهو لا يفتقر الى «حكمة» القبول بالممكن: دولة فلسطينية محيّدة تتعايش بسلام مع جارتها الدولة العبرية الأقوى. تبادل لأراضٍ في مقابل الأرض التي اقتطعها الاستيطان في الضفة. ثم تمرير «حق العودة» بشكل لا يسمح إلا بعودة القلة، وبقاء الأكثرية الراضية بالتوطين حيث هي.

لماذا لم يحظ جيل مروان باعتراف عربي ودولي؟

لأنه جيل غير مضمون أو مأمون. جيل حائر بين المقاومة والتسوية. مروان نفسه مثال على هذه الحيرة والبلبلة. شاب محترم. مثقف. خطيب. قارئ. متجاوز لعشوائية عرفات. يتكلم العبرية والانجليزية، فاهم للعقل السياسي الاسرائيلي. مروان يلتقي مع عباس في قبول أوسلو، والتعايش السلمي مع الاسرائيليين، ويختلف معه حول مكافحة الفساد وتعميق الديمقراطية، وحول الانتفاضة التي يتبناها، فيما يرفض عباس عسكرتها.

جيل مروان شديد الغموض تحت مجهر النظام العربي. صمته أو قبوله بالجهاديين الانتحاريين يثير الشكوك في امكانية تحقيقه تسوية مع الاسرائيليين. اذا اراد، فهل شعبيته ونزاهته قادرتان على فرضها على الشارع الفلسطيني وتنظيماته الحزبية والأصولية؟ ثم ما هي حدود الرفض والقبول عنده؟ أغلب ظني ان الاسرائيليين لم يستطيعوا التوصل معه الى اتفاق مسبق على تسوية ما للصراع، في عملية المساومة السرية التي جرت في سجنه، قبل إعلان مبايعته المدهشة لعباس.

أيضا، جيل مروان يعاني من انقسامات وطموحات رموزه وممثليه. مروان المحاصر والسجين ينافسه قادة في عمره لا يقلون عنه طموحا، وان كانوا لا يتمتعون بشعبيته. زكريا الزبيدي قائد تنظيم «فتح» المسلح (شهداء الأقصى) يعارض الإفراج عنه، إذا لم يتم الافراج عن الأسرى! الرجوب ودحلان يعترفان بشعبية مروان، ولا يقبلان بزعامته. و«حماس» مستعدة لدعم ترشيحه، لكن لا ترضى بـ«علمانيته».

التساؤل عن قدرة جيل مروان على تمرير تسوية ما مع اسرائيل، ينسحب ايضاً على جيل عباس. موت عرفات والتأييد الدولي والعربي وأيضاً الاسرائيلي، منح جيل عباس فرصة أخيرة للتوصل الى تسوية. لكن من المشكوك فيه ان يقدم اليمين الاسرائيلي الاستئصالي والاستيطاني (جيل شارون) التنازلات التي تجعل التسوية عادلة في رؤية الفلسطينيين.

من هنا، إذا نجح جيل عباس في مناورة الاستيلاء على السلطة، فهو غير قادر، على الأرجح، على تمرير التسوية، أية تسوية. الحصول على الشرعية الانتخابية لا يلغي شكوك الفلسطينيين في عباس وقريع «المتهمين» بالتساهل مع الاسرائيليين والأميركيين. المعارضة الجهادية والنضالية لهما بالمرصاد، ومعها أيضاً الجيل الجديد الذي ينتظر أقطابه منهما ارتكاب الخطأ لترحيلهما والحلول محلهما.

وحتى الظهور المسرحي التضامني لأقطاب الجيل القديم ينطوي على اختلافات في الرؤى وتناقضات في توزيع المناصب. ربما كان الأفضل ان يكتفي محمود عباس برئاسة منظمة التحرير، فيما يتولى قريع رئيس الحكومة عملية المفاوضة على أن تُسند قيادة «فتح» إلى البرغوثي، ولا أدري كيف يمكن تحقيق الانسجام والتنسيق بين القدومي الرافض لأوسلو، والمشكك في إمكانية التوصل الى تسوية، وثنائي عباس/ قريع المتلهفين على قبول كل ما يرفضه شريكهما الثالث.

يبدو لي أن ولاية الجيل القديم لن تكون دائمة. لا العمر الذي تجاوز السبعين أو اقترب منه يسمح بالاستمرارية، ولا التسوية الصعبة أو المستحيلة مع اسرائيل تسمح بالبقاء في السلطة والقيادة. وهكذا ايضاً، فتأجيل جيل مروان سيكون مؤقتاً. الواقع انه تم شراء سكوته باسترضائه بتعهدات، منها مشاركته في القرار والاستشارة، واجراء انتخابات حزبية (فتح) وتشريعية وانتخابية (في مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير) في العام المقبل.

يعني ذلك ان النظام العربي سيواجه متاعب صراع الأجيال الفلسطينية خلال عام، في حين لا تكفي هذه المدة لعقد تسوية عادلة وشاملة. مصر تبذل جهودا مضنية لمصالحة الأجيال، وللتقريب بين «فتح» وسلطتها، وتسكين التنظيمات الأصولية، تجنبا للفوضى وللمواجهة المسلحة بين الفصائل، ولا سيما في غزة بعد الانسحاب الاسرائيلي.

التسوية في المنطقة تمشي مقلوبة على رأسها. كان على النظام الدولي، ولا سيما الأميركي، تسوية قضية الجولان الأسهل. انسحاب سوري من لبنان، يقابله انسحاب اسرائيلي من الجولان. الانسحاب هنا وهناك يحيّد الضغط السوري والايراني على القيادة الفلسطينية، لتمكينها من التوصل الى تسوية مرحلية أخرى مع اسرائيل.

إدارة بوش تبدي تجاوبا مع أوروبا في ضرورة الضغط على اسرائيل، فيما تشارك أوروبا بوش في تجاهل سورية مفتاح الحل في المنطقة، بل يتم تهديد أمنها واستقرارها! ما هو أكثر خطرا أن أوروبا تساوم أميركا عبر لقاءات سرية حاليا، على تأييد بوش في العراق، في مقابل ضغطه على شارون، معتبرة أن التسوية في الضفة وغزة لها الأرجحية، لتجنب انفجارات أكبر وأوسع في المنطقة.