صحافي في ورطة..!

TT

سمعت وقرأت عن انتحال شخصيات الأثرياء والسياسيين والأمراء، لكن عن انتحال شخصية صحافي يحترف الكتابة، فهذا ما لم أتعرف عليه بعد، حتى الأسبوع الماضي.

فقبل عدة أيام اتصل بي بعض الاصدقاء معاتبين، بسبب ظهوري في قناة العربية، وقالوا: «لقد كان ظهورا شاحبا وخاطفا، لم تقل فيه سوى كلمة واحدة هي: نعم. تملكتني الدهشة، ولم استوعب حديثهم. وبعد لحظات يسيرة غادر ضباب الغموض وتدفق نهار الواقع.. وقلت: ببساطة، لم يكن ذلك الشخص انا، لقد كان منتحلا، راق له العبث مع شاشة التلفزيون.

خلفية هذه القصة الظريفة، ان المسؤولة عن الاتصال بالضيوف في فضائية العربية، وهي سيدة لبنانية، اخطأت في رقم هاتفي، واتصلت بشخص سعودي آخر، يبدو لي أنه شاب يعاني من أزمة عاطفية، وقالت له: مرحبا سيد مشاري، لدينا برنامج في هذه الليلة، سنتحدث فيه عن مسألة افتاء 26 من الاسلاميين السعوديين، في بيان لهم، بوجوب دعم المقاومة في العراق، وذيول هذا البيان المتعلقة بشخص الشيخ سلمان العودة، أحد أبرز موقعي هذا البيان، ومعركته الاعلامية بعد نشر صحيفة الوطن السعودية، خبرا مفاده أن ابن العودة قد مازح أهله وأوهمهم بنيته الذهاب للعراق «مجاهدا»، فسعى الوالد لمنعه من ذلك عبر الاستعانة بالحكومة السعودية، الامر الذي نفاه العودة، وقال إن ابنه لم يعتزم الذهاب اصلا للعراق حتى يخاف عليه، والقضية كما يعلم المتابعون استأثرت بتركيز اعلامي لبضعة ايام.. المهم أن زميلتنا مسؤولة الاتصالات بقناة العربية، أخبرت صاحبنا بذلك، وبأن الشيخ سلمان العودة سيتحدث مدافعا عن موقفه، ثم اتفقت مع هذا الشخص، أو «أنا المزور!» على الظهور، وظهر بالفعل، وبعد ما أدلى الشيخ العودة بدلوه في الموضوع، جاء الدور على صديقي المزور، وسألته المذيعة بلهجة جادة: «هل تعتبر ما قاله الشيخ العودة حول ذهاب الشباب السعوديين للجهاد في العراق تراجعا عن مواقفه السابقة أم ماذا؟ ويبدو ان صاحبنا ارتبك، ولم يتوقع أن تتطور الأمور بهذا المنحى «الناشف»، فتلعثم وهذى قليلا، ثم وجد حلا مريحا: أقفل الخط بعد ان قذف بكلمة: نعم تراجع، حينما كررت عليه المذيعة السؤال.

غضبت أول الأمر بعد علمي بخبر هذا اللص الظريف، لكنني ضحكت أكثر، حينما تأملت في مغامرة الشاب الذي عانق الشاشة لدقيقة واحدة، من تراه يكون؟ وهل يعرف اصلا شخصي، أو يهتم بقصة الفلوجة هذه؟

تلقيت اتصالات توضيحية من الزملاء في فضائية العربية، تقول إنه قد حصل لبس في الموضوع، وخطأ غير مقصود، وانتهت المسألة عند هذا الحد.

لكن، خطر في بالي أنه ربما جاز لي رفع دعوى تضرر على تلفزيون العربية، لأنهم أوقعوا شباب الشعوب العربية في لبس مريج، وفتنة مضلة، وخلطوا الحابل بالنابل، مما تولد عنه بذر الشقاق بين أبناء الأمة الواحدة، واثارة نوازع التفرق، وشق العصا ونشر الشبهات.

خطر لي ذلك، بعد أن سألت الكاتب السعودي المعروف الدكتور حمزة المزيني عن صحة ما قيل، من رفع شيخ سعودي دعوى عليه في المحكمة، بسبب اختلافه معه حول مقالاته في نقد التعصب ووجوب الاصلاح الديني، ودخوله في سجال كتابي معه. حمزة أكد لي صحة الخبر وقال، بالأمس فقط عدت من المحكمة، بعد أن استدعاني «خصمي»، ويتابع: «القاضي رفض ان ينظر في الملف الذي تقدم به ذلك الشخص، وهو ملف يتضمن مقالاتي محل النقد ومثار الدعوى المفترضة، وقال لذلك الشخص: الأمور لا تتم هكذا، يجب ان تكتب دعواك بشكل واضح ومحدد، ووفق صيغة معروفة، حتى يمكننا النظر فيها».

القضية الآن تتعلق بالصحافيين، والمفترض فيهم إبداء رأيهم في هذا التطور الجديد.

وهنا جملة من الاسئلة تتعلق بمثل هذه الحالة : إذا كان شخص ما، في مكان ما، يختلف مع ذلك الكاتب او الصحافي حول قضية سياسية او فكرية أو فقهية محددة، فهل هذا مسوغ لجره لساحات القضاء، ورفع دعوى عليه تحت ستار التضرر أو «الحسبة»؟ وهل هذا الأمر، الآن، يعتبر متسقا مع حركة التاريخ الانساني العام، ورياح الشرق والغرب؟ والأهم من ذلك: هل هذا مفيد لصورة المملكة، التي لا تحتاج الى المزيد من كيد الاعداء وجهل الابناء؟ وهناك ما هو أجدر بالسؤال من كل ما مضى، وهو: هل تضرر الاسلام طيلة 14 قرنا من وجود الخلافات في الرأي والاتجاهات بين المنتمين إليه، وهل تلاشى الاسلام بسبب هذه الخلافات؟ وهل يمكن تصور مجتمعات خالية من التعدد والاختلاف؟ وهل هناك في السعودية، تحديدا، اختلاف حول حقيقة الاسلام، وكونه الركن الركين، الذي لا تفاوض عليه، في الهوية السعودية؟ أم أن هناك اختلافا في بعض «الاجتهادات» والتفسيرات، وتنوعا في مناهج التفكير، وهذه ظاهرة صحية بكل حال، لو يعقلون.

بعد هذا كله، أشدد هنا على نقطة مهمة: لست ضد مبدأ مقاضاة الصحافي او المؤسسة الاعلامية، اذا ما ثبت انها قد تسببت عبر نشر خبر او معلومة، بالاضرار بطرف ما، هذا حق لا يجادل فيه منصف، لكنني ضد الغاء مكسب الحرية الاعلامية، التي وبرغم كل ما يمكن قوله فيها وعنها، تبقى متجهة الى الامام، ورصيدا يضاف إلى مسيرة المجتمع السعودي.

بدأت حديثي هذا بفضائية العربية، والموقف الظريف الذي كان بطله الشاب المزور، وانني قد وسوست بإمكانية رفع دعوى على هذه المؤسسة الإعلامية، لربما أصبح مليونيرا وأشتري يختا، أو حتى قاربا صغيرا، لا أدري ماذا أفعل به، وأملك قطعة أرض على البحر في جدة، أو شقة فاخرة في لندن.. ربما، لكنني عدلت عن تلك الفكرة التي ألقى بها شيطان المال والثراء، بعد ان علمت بأن الباب قد يفتح على مصراعيه، فقد قالت أنباء الايام القليلة الماضية ان الـ26 اسلاميا سعوديا، الذين أصدروا بيانا شجعوا فيه المقاومة وجماعاتها في العراق، وأشادوا بالفلوجة، يفكرون في استخدام سلاح القضاء، وأنهم قد اجتمعوا بمدينة الرياض، وتداولوا تكليف محامين برفع دعاوى على إعلاميين شوهوا بيانهم، أو «تعمدوا» ذلك حسبما يؤكد الاسلاميون الـ26.( المدينة السعودية 23 نوفمبر 2004).

والمشكلة أن مثل هذه الالفاظ الضبابية، كلفظة «تشويه»، تخضع لتفسيرات متعددة طبقا لمرجعية ورغبة الشخص، فمن يقول إن هذا تشويه، قد يخالفه آخر ويقول: بل هو توضيح لما لم يقل ويفصل في منطوق البيان. التشويه وارد ولكن كيف لنا ان نضطبه بمسطرة لا تزل وميزان لا يطيش؟!

[email protected]