ولادة جديدة.. للقضية الفلسطينية

TT

كان الدكتور هشام شرابي، المفكر الفلسطيني البارز والمعتدل، يقول ويكرر دائما أن الشعب الفلسطيني قد اصيب في تاريخه المعاصر، ليس بكارثة وطنية واحدة، بل بكارثتين وطنيتين، هما سبب كافة معاناته الإنسانية وإخفاقاته السياسية. الكارثة الأولى هي نكبة 1948 والتي أدت الى احتلال فلسطين من قبل العدو الإسرائيلي، الذي ارتكب جرائم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني على مدى الـ50 سنة الماضية. أما الكارثة الوطنية الثانية التي حلت بالشعب الفلسطيني، كما يقول الدكتور هشام شرابي، فهي زعامة ياسر عرفات للنضال الفلسطيني على مدى الـ40 سنة الماضية. فهذه الزعامة لم تجلب للشعب الفلسطيني سوى الانتقال من هزيمة الى أخرى، ومن إخفاق الى المزيد من الإخفاق. أما ادوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الذي عرف الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عن قرب، فقد كان أكثر حدة من هشام شرابي في نقده لممارسات عرفات. كان ادوارد سعيد أول من وصف عرفات في كتاباته النقدية، بأنه «زعيم مافيا السلطة الفلسطينية»، التي احتكرت القضية ووضعتها في حقيبة مغلقة، لا يعرف أسرارها وكيفية الدخول إليها والخروج منها، سوى عرفات وشلة صغيرة منتفعة وفاسدة من حوله.

وصف عرفات بأنه «زعيم مافيا»، ووصف زعامة عرفات للنضال الفلسطيني بأنها «كارثة وطنية»، ووضعها في نفس مصاف نكبة 48، ربما فيه قسوة ما بعدها قسوة. لكن هذه القسوة على زعامة عرفات وتجربته السياسية، وليس على شخصه، تعكس عمق الاستياء الذي كان يكنه جمهور واسع من المثقفين والمفكرين والمبدعين والمناضلين الفلسطينين، من أمثال هشام شرابي وادوارد سعيد. ولم يكن الاستياء من سياسات وممارسات وسلوكيات عرفات مقتصرا على شريحة الكتاب والأدباء، بل كان الاستياء من مناوراته وتكتيكاته وأخطائه القاتلة، متغلغلا ومتجذرا بين قطاعات أوسع من الشعب الفلسطيني، الذي خرج بأعداد غفيرة تودعه الوداع الأخير، وتنسى أو تتناسى أخطاءه القاتلة في لحظة من لحظات المشاعر العفوية والحزن العميق على موته، ليس شهيدا كما تمنى، بل مسموما كما يزعم البعض، وربما مهزوما كما يجزم البعض الآخر.

سيسجل التاريخ لأبو عمار رحمه الله، انه كان رمزا لقضيته التي ساهم في إبقائها حية في القلوب والوجدان والضمير الفلسطيني والعربي والعالمي. عاش أبوعمار من اجل شعبه ووهب حياته لقضيته وضحى من اجل فلسطين، التي تستحق التضحية من قبل كل إنسان عربي، ومن قبل كل محب للعدالة في العالم. لكن عرفات أساء الى نفسه والى قضيته، عندما اختزل القضية والشعب، بل اختزل كل فلسطين في شخصه، وفي أسلوبه الفردي والأبوي. لم يكن أبو عمار يختلف كثيرا في أسلوبه الاستبدادي عن بقية الحكام العرب، الذين ضيقوا الخناق على شعوبهم، ولم يجلبوا للأمة العربية سوى الهزائم والانتكاسات والإخفاقات التنموية والسياسية والعسكرية، المتكررة على مدى الـ50 سنة الماضية. بدون عرفات وبدون بقية الزعماء العرب المستبدين، ستكون فلسطين والأمة العربية والشعوب العربية أفضل حالا. وفاة عرفات هي بمثابة ولادة جديدة للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، الذي عليه أن يتجاوز سريعا إرث عرفات الثقيل، ويستمر في الصمود والمقاومة. فالرهان لم يكن في أي وقت من الأوقات على الزعيم والقائد، مهما كان فذا، بل على صمود الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته وتضحيات شهدائه.

فزعامة عرفات الفردية ضيقت الفضاء السياسي على الشعب الفلسطيني أكثر مما هي ضيقة، وعسرت القضية أكثر مما هي معسرة، وعقدت مساراتها السياسية والنضالية أكثر مما هي معقدة. كما تسببت فردية عرفات في تعميق الخلافات، وتأجيج الصراعات والانقسامات في البيت الفلسطيني والتي لم تكن تنتهي. ما أحدثه عرفات من خراب في البيت الفلسطيني الداخلي، يفوق نجاحاته الرمزية والتي لا توزاي حجم التضحيات التي دفعها الشعب الفلسطيني، من اجل تأكيد حقه المشروع في وطنه وقيام دولته المستقلة. لعرفات ايجابيات كثيرة، في مقدمتها انه قائد بقلب كبير ومحب، لكن سلبياته أكثر وهي التي أضرت بالقضية وشوهت المقاومة، وجلبت الكثير من العذابات التي لا تطاق لحوالي 6 ملايين فلسطيني في الشتات، ولأكثر من 4 ملايين فلسطيني يعيشون قسوة الاحتلال. لقد ادخل عرفات القضية الفلسطينية العادلة الى نفق مظلم، ثم اخذ يتحدث بنبرة مملة وبلهجة غير مقنعة، انه يرى النور في آخر النفق.

إن اقل ما يقال في عرفات، انه كان شخصية خلافية تثير الكثير من المشاعر الحادة والمتأججة في كل الاتجاهات. كانت شخصية جاذبة وطاردة في نفس الوقت وربما كانت طاردة أكثر مما هي جاذبة. وبقدر ما كانت شخصية عرفات جاذبة وطاردة، كانت أيضا شخصية ميكافيللية حتى النخاع.

فعرفات أحب السلطة، وعمل من اجل احتكارها، وأبدع في فن البقاء فيها بأي ثمن وبكل الأساليب والوسائل، بما في ذلك الأساليب الملتوية والوسائل غير المشروعة ولم يكن يطيق العيش خارج أضواء السلطة. لقد تعامل عرفات مع السلطة، وكأنها ملكية خاصة، وتصرف كملك أكثر مما تصرف كرئيس منتخب. بدأ عرفات بالقضية، وانتهى بالسلطة ثم انغمس في مناوراتها واستمتع بهيبتها وما تجلبه من احترام وطاعة وولاء ونفوذ وقوة، ولم يكن يدع كائن من كان بما في ذلك اقرب الرفاق إليه من الاقتراب من سلطاته السياسية وصلاحياته المالية وأجهزته الأمنية.

لذلك ورغم الحزن والشعور باليتم والضياع، فإن الشعب الفسطيني في الداخل والخارج سيتجاوز سريعا مرحلة عرفات لأنه يستحق رئيسا منتخبا انتخابا حرا يحقق له ما لم يتمكن أبو عمار من تحقيقه. سيتجاوز الشعب الفلسطيني المرحلة العرفاتية التي طالت بأكثر مما كان ينبغي لها أن تطول وهو أفضل حالا. ورغم صعوبات الولادة الجديدة وغموضها خاصة في ظل إعادة انتخاب بوش وشعور المجرم شارون بالانتصار، فإن الثابت الوحيد هو أن النضال لن يتوقف والمقاومة لن تتوقف والصمود سيستمر. الشعب الفلسطيني في الشتات سيزداد رغبة في العودة والتمسك بحق العودة. والشعب العربي في فلسطين المحتلة سيتمسك بكل شبر من ارض فلسطين وسيقاوم الاحتلال وسيهزم شارون آجلا أم عاجلا.

الولادة الجديدة تعني ان الشعب الفلسطيني الصامد سيكون أكثر صمودا بدون عرفات. والشعب الفلسطيني الصابر سيكون أكثر صبرا بدون الزعامات الفردية. والإنسان الفلسطيني الذي لم يستسلم لشارون وكان عصيا على القمع الصهيوني سيستمر في ممارسة ما مارسه على مدى أكثر من 50 عاما من مقاومة الاحتلال حتى الحصول على الاستقلال. الشعب الفلسطيني هو الثابت الوحيد، أما عرفات وكل الزعماء من قبله ومن بعده فإنهم سيأتون وسيذهبون بكل حسناتهم وسيئاتهم.

فلسطين اكبر من عرفات، والقضية الفلسطينية أهم من أبو عمار. فرغم عدالة كل القضايا، لا توجد قضية أكثر عدالة منها، وسوف تتضح عدالة هذه القضية أكثر في الولادة الجديدة. ولا توجد قضية أكثر مركزية في السياسة الدولية اليوم مثلها، وستصبح أكثر مركزية خلال مرحلة ما بعد عرفات. كما لا توجد قضية أكثر إلحاحا على جدول أعمال المجتمع العالمي كالقضية الفلسطينية، التي ستزداد إلحاحا بسبب ارتباطها الشديد بالأمن والاستقرار العالمي. ولا توجد قضية تشغل كل الرؤساء في أميركا وأوروبا والعالم العربي وكافة العواصم العالمية الكبرى، بدءا بواشنطن ومرورا بباريس وانتهاء بلندن، كالقضية الفلسطينية، وسيزداد التعاطف العالمي معها الآن، وقد تحررت من سلطوية وفردية وميكافيللية أبو عمار الذي ارتاح الراحة الأبدية. كل شيء سيصب من الآن فصاعدا في صالح الشعب الفلسطيني الصامد، ولصالح قضيته العادلة التي تعيش ولادتها الثانية، وتدخل مرحلة ما بعد عرفات وهي أكثر صمودا وتماسكا وتفاؤلا.

ورغم غموض الولادة الجديدة، فالثابت الوحيد هو أن النضال لن يتوقف والشعب الفلسطيني الصامد سيزداد صمودا، فيما ستكون عدالة القضية أكثر وضوحا.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات