السودان في انتظار استحقاق تقرير المصير

TT

رغم كل التطورات التي تحفل بها الساحة السياسية السودانية الا ان هذا العام سيكون في تقديري عاما مفصليا في ما يخص الجنوب وفي ما يتعلق بحق تقرير المصير تحديدا. فالبذرة التي وضعت في اجتماع سري بين شخصين اثنين في فرانكفورت قبل ثماني سنوات نمت وتشعبت لتفرض نفسها على الساحة السياسية حكومة ومعارضة، بل وحتى على دول الجوار.

فمن ناحية تكتمل هذا العام فترة السنوات الأربع التي اقترحتها اتفاقية الخرطوم للسلام بين الحكومة وبعض الفصائل الجنوبية ويفترض بعدها ان يتم تخيير الجنوب بين الوحدة او الانفصال. ومن الناحية الأخرى فان الضغط الدولي يمكن ان يتزايد هذا العام لانفاذ هذا الوعد خاصة مع استمرار الحرب الأهلية بكل معاناتها الإنسانية وعجز القوى السياسية عن ترجمة اتفاقاتها وتحقيق السلام على أرض الواقع.

ومع ان التدخل الدولي بمختلف أشكاله أصبح ملح القضية السودانية بمختلف تشعباتها، الا ان الجديد ان هذا التدخل الذي كان قاصرا على وزارات الخارجية وأجهزة الاستخبارات ومؤسسات العون الإغاثي والإنساني، أصبح مرشحا الى ان يكتسب له بعدا شعبيا محليا في الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة، وأبرز مثال على ذلك التحرك الذي بدأه الأتحاد القومي لنهضة الملونين بالتضامن مع بعض أعضاء الكونجرس من السود لإعداد بعض مشروعات قرارات عقوبات بحق السودان بسبب موضوع تجارة الرقيق. والولايات المتحدة التي تعتبر أكبر مساهم في عمليات الإغاثة في السودان، وأنفقت خلال العقد الماضي أكثر من مليار دولار، يمكن أن تجد في هذا ما يشجعها على المضي قدما لدعم اتجاه حق تقرير المصير، خاصة عندما يجد له مساندة من قوى سياسية أميركية محلية، وفي الوقت الذي تتزايد فيه القناعة ان القوى الشمالية في السودان تنطلق كلها من موقف واحد تجاه الجنوب في واقع الأمر.

تعود خلفيات موضوع تقرير المصير الى صيف العام 1991 عندما حدث الانشقاق الكبير في الحركة الشعبية وقيادة جون قرنق لها. وفي حسابات سياسية واضحة قررت الحكومة دعم تيار الانشقاق الذي تزعمه كل من رياك مشار ولام أكول، وأن ترمي بثقلها خلفهما رغم انهما كانا يرفعان شعار الانفصال، بينما تتبنى حركة قرنق خطا وحدويا، على الأقل في خطابها الرسمي. فهما من ناحية كانا يشكلان القوة الأقل، كما انهما ينتميان الى قبيلتي النوير والشلك المناوئين لقبيلة الدينكا التي يتحدر منها قرنق، وفوق هذا فان مناطق وجودهما العسكرية كانت تتركز بصورة رئيسية في مناطق بأعالي النيل وبحر الغزال، بعيدا عن الحدود، الأمر الذي يجعلهما عمليا رهينة لدى الحكومة في ما يخص امدادات الغذاء والسلاح. ولهذا فهما يمثلان عنصر ضغط ممتاز على الحركة.

ومع الحملة العسكرية التي كانت تعد لها الحكومة ونفذتها بنجاح بعد ذلك، عندما تمكنت من طرد قوات قرنق من 41 حامية ومدينة كانت تسيطر عليها بما في ذلك مركزيه الرئيسيين في توريت وكبويتا، فقد كانت تؤمل بحسم أمر قرنق عسكريا والتفرغ للمجموعات المنشقة في ما بعد.

لكن بما ان مثل هذه القضايا لا تحل عسكريا فقط، فقد أدى حق تقرير المصير الذي تبرعت به الحكومة للمجموعات المنشقة الى الضغط على حركة قرنق لتتبنى خيارات جديدة تضع الانفصال مع الحل الكونفيدرالي على قدم المساواة مع الوحدة. وانسحب هذا على التجمع الوطني المعارض، الذي لم يجد بدا من تضمين مقرراته في العام 1995 حق تقرير المصير كذلك. وردت الحكومة على ذلك بابرام اتفاقية الخرطوم للسلام في أبريل 1997 مع ست مجموعات يمثلها أبرز القيادات المنشقة على قرنق، وهم مشار، كاربينو كوانين، أروك طون والسياسي صمويل أرو، كما انضم اليهم في ما بعد لام أكول أحد مهندسي اتفاق فرانكفورت، الذي أصبح يقود فصيلا آخر.

الاتفاقية نفسها أصبحت في الواقع العملي ورقة معلقة في الهواء خاصة وموقعوها إما عادوا الى ضفة المعارضة مرة اخرى مثل مشار او قضوا نحبهم في القتال مثل كاربينو أو بالموت الطبيعي مثل أروك طون وصمويل أرو. الوحيد الذي ظل على المسرح في الخرطوم هو لام أكول، والمفارقة أنه عضو في الحكومة بينما الشخص الذي وقع معه اتفاق فرانكفورت، علي الحاج، أصبح معارضا. وألأمر لا يقتصر فقط على غياب تلك الشخصيات، وانما لأن تلك الاتفاقية لم تنجز شيئا يذكر على أرض الواقع خلال الفترة الانتقالية بتحقيق وقف اطلاق النار وعودة اللاجئين واعادة تعمير المناطق المتأثرة بالحرب وترقية عمليات السلام وبناء الثقة بين أبناء السودان. وهي نتيجة طبيعية لأن الاتفاقية لم تشمل الجهة الرئيسية التي تحمل السلاح.

لكن بغض النظر عن فشل الاتفاقية، فان حق تقرير المصير الذي قننته ووافقت عليه كل القوى السياسية من شمالية وجنوبية في الحكم أو المعارضة، أصبح واقعا يصعب الانفكاك منه. والتخلي عنه يعني تأكيدا لرؤية الجنوبيين عن تمادي الشماليين في نقض عهودهم مع الجنوب، كما يقول السياسي الجنوبي البارز أبيل ألير.

وفي المقابل فإن حق تقرير المصير يواجه بمعارضة شديدة من مصر وليبيا، ولهذا خلت المبادرة التي تقدمتا بها من الاشارة اليه، الأمر الذي أعاق التنسيق بينها وبين مبادرة «الايقاد».

بعد عقود من الاحتراب وعدم الاستقرار الذي كلف البلاد غاليا، فان الدرس المرير الذي استخلصته القوى السياسية ان الوحدة إما ان تكون طوعية يتحمل كل طرف مسؤولياته تجاهها او ان يكون هناك فراق باحسان، لكن يلفت النظر في كل هذا غياب المنهج والشفافية وتغييب الرأي العام السوداني بعدم اشراكه في اتخاذ قرارات كبرى مثل هذه، بينما يصبح عليه دفع الثمن في ما بعد في شكل حروب مستمرة. فحتى الآن لم تنشر قط وثيقة فرانكفورت التي تداعت بسببها كل هذه التطورات، كما ان المفاوضات التي قامت بها الحكومة ونتج عنها اتفاق الخرطوم للسلام تمت بين مسؤولين وقادة الفصائل وفي غياب أي مشاركة شعبية، تماما كما هو الحال مع اتفاق اسمرة الذي توصل اليه التجمع الوطني في غياب أجهزة تلك الأحزاب والمنظمات. ولعل خير انعكاس لذلك وضع حزب الأمة الذي يعتبر اكثر تأثرا بحق تقرير المصير عند تطبيقه بسبب وجود قبائل في مناطق التماس بين الشمال والجنوب تتبع تقليديا للحزب وقد رفعت صوتها المعارض لتلك الاتفاقيات.

تبقى الخطوة المطلوبة في هذا الاطار اجراء حوار شعبي وطني عميق حول قضايا الحرب والسلام بما يسهم في تعميق هامش الحرية الموجود حاليا، ويمكن أن يشكل مدخلا لكيفية التعاطي مع حق تقرير المصير الذي أزفت استحقاقاته. وفي ظروف الحراك الاجتماعي الذي يشهده السودان، فان مثل هذا الحوار لن يكون في اطار المؤسسة الشمالية فقط، فالخرطوم اصبحت اكبر مدينة سودانية في البلاد تضم أعدادا من الجنوبيين، أي أكثر من جوبا وواو وملكال، وهو ما يمكن أن يؤذن بضم الجنوبيين الى الحركة السياسية القومية على المستوى الشعبي.