المواهب والنظام التربوي

TT

يرغب فريق من كبار التربويين في بريطانيا ان يرى فصلاً خاصاً بالموهوبين في كل مدرسة لكنه يلاقي معارضة من فريق آخر يخاف من الاستثناءات في النظام التربوي، فحين يكون هناك أولاد ست وأولاد جارية في المدرسة الواحدة تختل المعادلة وينعدم العدل والمساواة.

خصوم هذه النظرية يرون انه ليس من العدل أيضاً ان يضيع الموهوب لصالح الطالب العادي، ويعتقدون ان فصول الموهوبين ومنهم بعض عباقرة المستقبل ضرورة للنظام التربوي، وليست ترفاً، فليس ذنب الموهوب ان يولد بقدرات أعلى وبالتالي فإن المدرسة يفترض ان تشجعه لتطوير ما عنده من قدرات ومواهب لا ان تقص أجنحته، وتطلب منه ان يلجم طاقاته ليصبح كالآخرين حتى يرضى عنه النظام التربوي، في بلاده.

ويستند معارضو نظرية إفراد الموهوبين في فصول خاصة الى جملة الفرضيات العلمية التي لم تستطع حتى الآن ان تحلل آليات العبقرية والموهبة وطرق عملهما، وأغلب هذه الفرضيات تؤكد ان العبقرية من المسائل غير القابلة للتفسير وأنها عصية على الذهن البشري، فهي منحة الهية للموهوب وسوف تعطي ثمارها سواء عزلت صاحبها في فصل خاص أو تركته بين العشرات في الفصل أو على قارعة الطريق.

ويرجع هؤلاء إلى ك. ج. يونغ أشهر علماء النفس بعد فرويد في العصر الحديث فقد سبق لهذا العالم الجليل القول في كتاب الانسان العصري والبحث عن النفس:

«ان المظهر الابداعي للحياة الذي يجد أوضح تعبير عنه في الفن يستعصي على كل محاولات الصياغة العقلية ذلك لأن أي رد فعل على مثير من المثيرات يمكن تفسيره سببياً بيسر أما الفعل الخلاق، وهو النقيض الكامل لرد الفعل المحض، فسيظل إلى الأبد مستعصياً على الذهن البشري».

وعلى العكس من هذا التوجه يعتقد المؤيدون لإفراد الموهوبين في فصول مستقلة للعناية بهم عناية خاصة ان التربية هي الأساس فمهما قيل عن هبة العبقرية، فإن العباقرة انفسهم يؤكدون انهم يدينون بما انتجوه للعمل الشاق، وللتكوين الخاص الذي اتيح لهم في سنوات التفتح الأولى.

وانصار تعميق خط التربية الجمالية المكثفة يضربون مثالاً على أثر تلك التربية بالموسيقارين البريطانيين دليوس وإلجار، فهما انجليزيان حتى العظم لكنهما يحسبان على الالمان لأنهما تدربا تدريبا المانياً، ولو لم يكن للتربية ذلك الاثر الكبير لكان عطاؤهما أقرب الى المدرسة البريطانية ومناخاتها.

وفي الشعر يميز النقاد حين يجيء حديث العبقريات بين الكتابة المحكمة والكتابة الملهمة وخير من يمثل النوع الأول عند الانجليز جونسون اما رائد الخط الملهم فشكسبير دون منازع.

وعن الفرق بين الاثنين يقول درايدن «يجب ان اقر بأن جونسون هو الشاعر الأصولي والأدق لكن شكسبير هو (هوميروسنا) وهو أبو الشعراء الدراميين اما جونسون فهو (فرجيلنا) نموذج الكتابة المحكمة».

وفي العربية عندنا المتنبي كبير عباقرة الموهبة والطائي (ابو تمام) عميد الصناعة الفنية المحكمة ومع ان المتنبي تلقى تعليماً دقيقاً في مدرسة اشراف العلويين ببغداد ولم يتح الأمر نفسه لابي تمام، فإن عبقرية المتنبي فلتت من أسر المدارس والصنعة واثبتت فعلاً ان المواهب الكبرى عصية على التصنيف والتقعيد واكبر من كل المدارس.

وقبل ان ننساق في هذا الاتجاه لنسأل كم شكسبيرا عندهم وكم متنبيا عندنا..؟ ولأن الجواب واحد فلننس هذه العبقريات الاستثنائية، ونحصر الحديث بالموهوبين العاديين وهم بالمئات واحيانا بالألوف ويستحقون عناية خاصة بهم كي لا يضيعوا في الزحام، فهناك مواهب صلبة تقهر ظروفها لكن أغلبية المواهب لا تستطيع ذلك ومن حقها على الدولة والمجتمع ان يهيئا لها ظروف النضوج في أفضل مناخ ممكن.

ان الموهوب ثروة لشعبه ودولته فهو الذي يعبر عن ضميرها وطموحاتها ويرفع شأنها بين الأمم ولن يضير النظام التربوي وجود بضعة فصول للمواهب الخاصة لأنها ستظل مربحة من الناحية الاقتصادية مهما كانت مكلفة، فالاستثمار في الانسان وفي المواهب من أضمن وأنبل الاستثمارات.