أضاع الفلسطينيون الفرصة فأصبح شارون رئيساً لوزراء إسرائيل!

TT

ما أن انتهت الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة، بفشل باراك وفوز شارون، حتى بدأنا نسمع أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أضاع فرصة لاحت في كامب ديفيد الثانية وقد لا تتكرر أبداً، وأن الفلسطينيين على مدى تاريخ القضية الفلسطينية والصراع مع اسرائيل اشتهروا بعدم اغتنام الظروف عندما تكون ملائمة للحصول على ما كان من الممكن الحصول عليه في ظروف سابقة.

لقد قيل مثل هذا الكلام وأكثر منه بعد كارثة عام 1948 وقيام اسرائيل على ضعف ما كان قرره لها قرار التقسيم الشهير من أرض فلسطين، ولقد اتهم الحاج أمين الحسيني في سنوات ما بعد عام النكبة بأكثر مما يتهم به عرفات الآن، ووصل الاتهام الى عموم الشعب الفلسطيني في ذلك الحين، كما يصل اليه الآن، وان كان بحدة أقل وأكثر سرية.

فما هي الفرصة التي اضاعها ياسر عرفات في كامب ديفيد الثانية، وما هي الفرص التي اضاعها الحاج أمين الحسيني والشعب الفلسطيني قبل نكبة عام 1948؟

لقد صدر قرار التقسيم الشهير في عام 1947 ذلك القرار الذي اعطى للفلسطينيين اضعاف ما هو معروض عليهم الآن، ولقد رفضه الحاج أمين الحسيني، ورفضه الشعب الفلسطيني، ومعظم الدول العربية، خاصة المحيطة بفلسطين، وقبله اليهود بقيادة ديفيد بن غوريون، لأنهم كانوا يعرفون معرفة أكيدة أن الفلسطينيين والعرب سيرفضونه، ولأنهم في قبولهم الشكلي لهذا القرار كانوا ينخرطون في اتفاقيات سرية مع بريطانيا، الدولة المنتدبة، والتي يحتل جيشها كل أرض فلسطين.

في تلك الفترة المبكرة جداً من الصراع كان اليهود في نظر الفلسطينيين، ونظر العرب ونظر العالم بأسره، وفي نظر أنفسهم ايضاً مجرد تنظيمات مغامرة، تحاول ترويج خزعبلات تاريخية تدعي ان فلسطين ارض موعودة، وأن لليهود في كل العالم حق العودة اليها واقامة دولتهم الخاصة بهم، وفقا لما وعد به اللورد البريطاني بلفور في كتابه الشهير الى روتشيلد، بل وأكثر مما تضمنه ذلك الوعد.

لم تكن فلسطين ارضاً بلا شعب حتى تكون لشعب بلا أرض، وهذا أمر يعرفه العرب جميعهم، الأموات منهم والأحياء، ويعرفه العالم المنصف كله، لقد كانت عكا وحيفا ويافا واللد والرملة والقدس، مدنا فلسطينية عامرة، مثلها مثل المدن الأوروبية على الشواطئ الغربية للبحر الأبيض، وبهذا فقد كانت خيانة ما بعدها خيانة أن يوافق الفلسطينيون، وأن يوافق الحاج أمين الحسيني على قرار التقسيم الآنف الذكر.

لنتصور لو أن الشعب الفلسطيني وافق على قرار التقسيم في ذلك الوقت المبكر، ولنتصور لو ان كل ما جرى بعد ذلك جرى بعد هذه الموافقة، ولو ان الفلسطينيين هجروا من أراضيهم وقراهم ومدنهم بموافقة فلسطينية.

كان ضرباً من الجنون الذي لا شفاء منه، ولا علاج له، أن يفكر انسان عاقل مجرد تفكير بأنه كان على الفلسطينيين أن يوافقوا على ذلك القرار، الذي يعطي لليهود الحق في اقامة دولة فوق أرض فلسطين، أو على الأصح فوق جزء منها، بينما اصحاب الأرض الأساسيون ما زالوا في أرضهم، وفي مدنهم، وقراهم وفي جميع المناطق التي شملها هذا القرار.

لا يجوز الحكم على أمر من الأمور بعد خمسين عاماً، وحتى بعد عشرة أعوام، فالحدث وأي حدث يؤخذ في سياقه، وينظر اليه في ظل الظروف التي وقع بها، والتي رافقته، فقرار التقسيم وضع كخيار أمام الشعب الفلسطيني بينما كان شعب كل فلسطين في مدنه وقراه ومزارعه وبياراته، ولهذا فإن الحكم على موقف الشعب الفلسطيني ازاء هذا القرار يجب أن يؤخذ على اساس حيثيات ومعطيات ذلك الحين، وليس على أساس حيثيات ومعطيات السنوات اللاحقة، بعد قيام دولة اسرائيل وبعد ان سيطرت تنظيمات وعصابات اليهود الصهيونية على كل الأراضي التي أقيمت فوقها الدولة العبرية، وبعد أن تم طرد عشرات الألوف من ابناء الشعب الفلسطيني خارج وطنهم، وأصبحوا لاجئين تحت رحمة الأقدار في مخيمات الفقر والبؤس، التي تناثرت حول العديد من المدن والعواصم العربية.

قبل كل هذه التطورات المأساوية اللاحقة وقبل اقتلاع الشعب الفلسطيني تحت وطأة الارهاب والضغط والمؤامرات المتلاحقة، كان الحديث عن ايجابيات في قرار التقسيم خيانة ما بعدها، وكانت هذه التهمة جاهزة، ولقد ألصقت ببعض الزعماء والقادة العرب، ومنهم الملك عبد الله الأول بن الحسين، الذين استطاعوا استشراف معطيات المستقبل بسبب اتساع مداركهم، وبسبب تجاربهم وخبراتهم، ولأن مواقفهم هيأت لهم الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيرهم.

إن هذا هو واقع الحال، وإن الحديث بأثر رجعي عن ان الشعب الفلسطيني بقيادته في نهايات النصف الأول من القرن الماضي أضاع فرصة سانحة، ولم يغتنم ظرفاً لن يتكرر بعد ذلك ظلم ما بعده ظلم، ومطالبة الفلسطينيين في ذلك الوقت المبكر بالتخلي عن جزء من وطنهم، ليقيم اليهود فوقه دولة لهم، لا مثيل لها سوى مطالبة السوريين بالتخلي عن جزء من هضبتهم المحتلة، ومطالبة اللبنانيين بالتخلي عن مزارع شبعا.

في كامب ديفيد الثانية كان على عرفات، حتى يُرضي الذين يتهمونه الآن بأنه اضاع فرصة سانحة، والذين كانوا سيتهمونه حتماً بالخيانة، لو أنه قبل بما عُرض عليه ولم يقبل به، أن يتخلى عن السيادة العربية على المسجد الأقصى وعلى القدس، وأن يتخلى عن حق اللاجئين بالعودة وان يُسلم ببقاء معظم وأهم وأكبر المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية.

كان المعروض من قبل الأميركيين ومن قبل الاسرائيليين أقل بكثير من الطموحات والتطلعات الفلسطينية، خاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، وكان هذا الذي عُرض مجرد عناوين عامة، وتنقصه التفصيلات والايضاحات المطلوبة، ولم يكن مدعوماً بأية ضمانات مؤكدة، لا من قبل الولايات المتحدة، ولا من قبل المنظمة الدولية، ولا من قبل أية قوة فاعلة في العالم.

على «الفلاسفة» والحكماء الذين اشرأبت اعناقهم الآن بعد كل هذه التطورات، التي أوصلت شارون الى سدة الحكم، ان لا يخضعوا للمعطيات الراهنة فيطلقوا الاتهامات جزافاً ضد عرفات، وضد الشعب الفلسطيني، فما عرض في كامب ديفيد الثانية بالصورة التي عرض بها لا يمكن القبول به على الاطلاق، مهما كانت النتائج، ومهما افرز المجتمع الاسرائيلي من معطيات.

يقيناً لو أن عرفات خضع للضغوط الاميركية والاسرائيلية، وقبل بصفقة السُّم الزعاف التي عرضت عليه في كامب ديفيد الثانية، لكانت المواجهات الآن ليست بين الفلسطينيين والاسرائيليين، بل بين الفلسطينيين أنفسهم، ولكانت النتائج كارثة محققة، فما عُرض بالإضافة الى ما تضمنه من تنازلات عن الثوابت الاساسية، القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود، كان مجرد تصورات عامة غير محددة وغير مضمونة ولا ملزمة للإسرائيليين الذين بقوا يتهربون من دفع استحقاقات اتفاقيات اوسلو، والاتفاقيات المتفرعة عنها، هذا مع ان جميع هذه الاتفاقيات كانت مقرونة بجداول زمنية محددة، وكانت جميعها بكفالة الولايات المتحدة الأميركية.

لنتصور ماذا يمكن ان يكون وضع الفلسطينيين الآن لو أن عرفات خضع للضغوط الاميركية والاسرائيلية التي مورست عليه في كامب ديفيد الثانية، وقبل ذلك وبعد ذلك، وعاد الى شعبه، الذي قدم أكثر من أربعمائة شهيد، واكثر من خمسة وعشرين ألف جريح في انتفاضته الأخيرة، باتفاق هزيل غير واضح المعالم، وغير مضمون بأية قوة دولية لديها الرغبة والقدرة على تنفيذه وفرضه.

المؤكد، لو ان عرفات قبل بصفقة السُّم الزعاف هذه، ولو أنه عاد الى شعبه باتفاق بمثل هذه المواصفات، لكان الصراع محتدماً الآن بين الفلسطينيين أنفسهم، ولكانت الفوضى تَدُب في صفوف هذا الشعب وكان حتى اقرب المقربين من الرئيس الفلسطيني يتهمونه بالخيانة، ويطالبون بتنحيته، والاطاحة به، ولكانت هناك حرب أهلية فلسطينية، وهذا ما يحلم به شارون ويخطط له.

لم يضع عرفات أي فرصة في كامب ديفيد الثانية، بل فوت الفرصة على الاسرائيليين وعلى حاخامات الادارة الأميركية السابقة، بنقل الصراع الى صفوف الفلسطينيين، وإغراقهم بحرب اهلية داخلية، وخلق ظروف ملائمة لتمرير وتنفيذ ما يحلم به المتطرفون الاسرائيليون وفي مقدمته اخلاء العديد من مناطق الضفة الغربية من سكانها ودفع هؤلاء السكان تحت وطأة العنف والارهاب الى هجرة داخلية وخارجية جديدة.

ليس الوقت الآن وقت تلاوم والقاء عجز العاجزين على مشجب عرفات والشعب الفلسطيني، فالمعركة الآن محتدمة وفي ذروتها، واذا كان الفلسطينيون يعانون الكثير فإن الاسرائيليين يعانون ايضاً، وما يجري في الضفة الغربية وغزة وما حولهما وفي فلسطين كلها، هو مبارزة تبادل عض اصابع، والمؤكد ان الشعب الفلسطيني سيفوز بهذه المبارزة، اذا توفر له الدعم العربي المفترض، واذا لم يقتد العرب بذلك العاجز الذي يرد على الاهانات التي يتلقاها خارج منزله بالعودة للانتقام من زوجته وأطفاله.

لم يُضع عرفات أي فرصة سانحة في كامب ديفيد الثانية، بل فوت مؤامرة تضافرت في حبكها جهود حاخامات الادارة الأميركية السابقة، مع جهود باراك وأقرانه وأعوانه، وما يجري الآن هو استمرار لصمود الفلسطينيين في وجه الضغوط الاميركية والاسرائيلية، وهو انتقال لانتفاضة الأقصى من مرحلة الى مرحلة، وما على العرب الا القيام بواجبهم، ومساندة الشعب الفلسطيني الذي يرابط في وطنه دفاعاً عن المقدسات العربية والاسلامية في فلسطين.

اذا كان ترف التنظير والمزايدات جائزا في ظروف اخرى، فإنه غير جائز في مثل هذه الظروف، فالأمور على مفترق طرق، والوضع في غاية الخطورة، والفلسطينيون بحاجة وأمس الحاجة الى من يقف الى جانبهم، والموقف الفلسطيني في كامب ديفيد الثانية كان صحيحا وفي الاتجاه السليم، وعرفات لم يضع فرصة سانحة بل فوت مؤامرة خبيثة، والعرب يقفون الآن وجهاً لوجه أمام حكم التاريخ، ودعمهم للفلسطينيين في هذه المعركة هو مدخلهم الى القرن الجديد والألفية الجديدة.

ويبقى في كل الأحوال ان تحميل الفلسطينيين مسؤولية اضاعة فرصة، هي لم تكن متوفرة في حقيقة الأمر، يتناغم وبصورة لافتة للنظر مع الكلام الذي نُسب الى احد المستشارين في الادارة الأميركية الجديدة، الذي هدد فيه بتغيير عرفات واستبداله بآخر، ومع التهديدات الاسرائيلية المتلاحقة منذ انطلاقة الانتفاضة للرئيس الفلسطيني، واعتباره مسؤولاً عن كل هذا التدهور في فلسطين والمنطقة.