خريجو البقالات

TT

يقول بيل كلنتون في مذكراته انه تعلم الوقوف ضد التمييز العنصري وهو طفل، في البقالة التي كان يملكها جدَّه في بلدة «هوب»، في ولاية اركنساو. فقد كان الكثيرون من زبائن البقالة فقراء من السود «وكانوا يقطنون بين المقابر او خلف البقالة. وكان جدّي يقول ان لهم الحق في طرقات معبدة مثل سواهم لأنهم يدفعون الضرائب مثل سواهم». بعد ذلك نشأ حفيد البقال ليصبح مدعياً عاماً في أركنساو ثم حاكماً للولاية فواحداً من اهم رؤساء أميركا.

تذكرت وأنا أقرأ، بعد فترة طويلة على صدور المذكرات، ان والد ريتشارد نيكسون كان بقالاً هو الآخر في الريف الأميركي. ووالد مارغريت ثاتشر كان بقالاً في فنشلي، شمال لندن. ولا ادري ما هو القاسم المشترك بين البقالة والزعامات التاريخية، لكن المؤكد ان الارادة الفردية في بلاد الفرص يمكن ان توصل صاحبها الى حيث يحلم. وربما الى ابعد مما يحلم بكثير. ولا اعتقد ان نيكسون او ثاتشر او كلنتون كانوا يحلمون في بداية العمر بمقاعد تاريخية في اعلى الحكم في اهم البلدان. لكنهم بالتأكيد كانوا يجدّون من اجل الخروج من حالة الفقر والعوز التي كانوا فيها هم واهلهم.

روت لي سيدة لبنانية تعيش في لندن حكاية بارونة بريطانية من صديقاتها. قالت ان السيدة المولودة في اسكوتلندا، كانت وهي طفلة ترافق امها العاملة في تنظيف البيوت. وكانت ترى كيف ان امها تشقى وتتعذب. وكانت تلاحظ الفارق بين الناس الذين تعاشرهم امها وبين الذين تخدمهم. وتلاحظ الفارق في اللهجات والتعابير واللغة. وقررت انها سوف تنضم الى فريق المخدومين. وبدأت منذ سنوات الدراسة الاولى تكدّ. ولم تكن تقبل اي مرتبة في الصفّ دون المرتبة الاولى. وبسبب ذلك اصبحت تحصل على المنح في المدرسة ثم في الجامعة. واصبحت فيما بعد واحدة من اهم المحاميات في بريطانيا. ثم انعم عليها بالالقاب النبيلة الى ان اصبحت بارونة، في مرتبة ثاتشر.

قبل ايام كنت اتناول العشاء مع اصدقاء لي. ولاحظنا ان شاباً جديداً يقوم على الخدمة في المطعم الذي نرتاده باستمرار. وطرح عليه احدنا بعض الاسئلة، فعرفنا انه طالب جامعي. وانه الاول في صفه. وان الجامعة لا تتقاضى منه قسطاً دراسياً بسبب علاماته. لكنه يعمل ليعيل اخوته ونفسه. وقررنا ذلك المساء ان يدفع كل منا ما يوازي كلفة العشاء للطالب الذي اشعرنا بالخجل من انفسنا. وفي المكتبة التي اتعامل معها في بيروت كنت ارى فتاة شابة تنكب على القراءة الى طاولة منفردة. وكنت اعتقد انها موظفة. ثم لم اعد اراها. وقبل فترة رأيتها في المكتبة من جديد. وسألتها ماذا تفعل هذه الايام، فقالت انها تدرّس في الجامعة اللبنانية. واختلط عليّ الامر. وسألت، ماذا كانت تفعل في المكتبة اذن؟ وقيل لي انها لم تكن تعمل. بل كانت تأتي لتدرس لانها لا تملك ثمن الكتب. والكتب التي كانت تضطر لشرائها كانت امها تدفع ثمنها تقسيطاً، 10 دولارات وراء 10 دولارات. لأن الابنة يتيمة والأم وحدها تعمل. والآن تعمل الابنة ايضاً: استاذة في الجامعة.