حدث في تايلند: تسكين اضطهاد المسلمين .. بطيور من الورق

TT

قضى آلاف التايلنديين في الأيام القليلة الماضية أوقاتهم وهم يجمعون عشرات الملايين من طيور اللقلق المصنوعة من الورق التي أسقطتها الطائرات على مدنهم وقراهم في جنوب تايلند، في إطار حملة نظمتها حكومة بانكوك، للتأكيد على ضرورة السلام، واتخاذ هذه الطيور الورقية رمزا للسلام بين الأغلبية البوذية والأقلية المسلمة في الجنوب.

وجاء قرار هذه الخطوة الرمزية بعد أسابيع فقط على اشتباكات وقعت بين المسلمين وقوات الأمن التايلندية، أسفرت عن مقتل 500 شخص. وجرى خلال تلك الأحداث إلقاء القبض على حوالي 3000 مسلم خلال سلسلة من العمليات ذات الطابع العسكري. وفي وقت لاحق قتل ما لا يقل عن 80 معتقلا مسلما داخل حافلات تابعة للشرطة، خلال نقلهم الى العاصمة بانكوك. والى ذلك زاد الأوضاع سوءا تصريح رئيس الوزراء التايلندي ثاكسين شيناواترا حين زعم ان المعتقلين المسلمين توفوا نتيجة الضعف الذي أصابهم بفعل الصيام. ولدى مقابلة هذا التعليق بالسخرية التي يستحقها، قال ثاكسين ان الضحايا ماتوا بفعل الضعف الذي أصابهم بفعل تعاطي المخدرات، فيما جاءت حملة الحكومة التي أسقطت خلالها طيور اللقلق الورقية، كمحاولة من جانب ثاكسين للتراجع عن سياسة من سماتها الأساسية الغرور والجهل.

والمسألة في قتل قوات الأمن التايلندية لمئات المسلمين الشباب خلال الأسابيع القليلة الماضية، ليست من المسائل التي يمكن وببساطة التغطية عليها، ومحاولة تخفيفها بمثل هذه الحملات. فرئيس الوزراء رفض السماح بإجراء تحقيق مستقل في الأحداث المأساوية الأخيرة. يضاف الى ذلك ان المحافظات التي تأثرت بهذه الأحداث، مثل باتاني ويالا وناراثيوات وساتون، لا تزال خاضعة لحالة الطوارئ، مما يعني ان أجزاء كثيرة منها لا تزال مغلقة أمام الصحافيين الأجانب ومنظمات الإغاثة.

لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا إزاء أعمال القتل والعنف في جنوب تايلند. وحتى «منظمة المؤتمر الإسلامي»، التي تحتفظ فيها تايلند بموقع عضو مشارك، آثرت الصمت الكامل.

ويعود تاريخ مشاكل تايلند في المحافظات الجنوبية الى الماضي الامبراطوري لمملكة تايلند. فعلى الرغم من ان المملكة كانت ولا تزال دولة تعتبر البوذية فيها ديانة غالبية السكان، فإن التنوع الثقافي يعد سمة مميزة وأساسية بين سكان البلاد. أما مجموعة التاي، فتشكل واحدة فقط من العديد من المجموعات العرقية في تايلند الحالية. وفي الجنوب تمثل مجموعة المالاي غالبية السكان، وهي مجموعة عرقية ذات تاريخ غني وهوية مميزة.

وتشكل المحافظات الأربع التي يتركز فيها المالاي جزءا مما كان يعرف بـ«باتاني الكبرى»، وتغطي كل أجزاء سلطنة باتاني السابقة، وهي نفسها مشتقة من «مملكة لاغكاسوكا» (اسمها كما ذكر في النصوص الصينية هو لانج ـ يا ـ سيو). وقد حاول حكام تايلند المتعاقبون منذ القرن الثامن عشر، إخضاع هذه المحافظات وجعلها جزءا من امبراطورية سيام.

في عام 1901 خرق حاكم تايلند الملك تشولالونغكورن اتفاق السلام الذي وقعه مع ولايات المالاي وشن حملة عسكرية ضدها. وفي إطار برنامجه الخاص بالمركزية، أُجري ضمن سبع محافظات من باتاني تحت وحدة إدارية جديدة أطلق عليها «منطقة المحافظات السبع»، أصدر الملك إداريين لحكم محافظات المالاي مباشرة من العاصمة الملكية بانكوك. وفي عام 1906 أصبحت محافظات المالاي السبع تحت وحدة إدارية واحدة أطلق عليها مونثون باتاني، إلا أن بريطانيا استولت عام 1909 على ممالك كيلانتان وترينغانو وكيداه وبيرليس اثر التوقيع على اتفاق سيامي ـ بريطاني.

وعلى الرغم من واقع التقسيم الذي أحدثه هذا الاتفاق ، ظلت ممالك باتاني الملاوية مماثلة لنظيراتها في تايلند في كل الجوانب، ذلك ان مجتمع باتاني كان اسلاميا وذا طبيعة مرتبطة بالملايو كمجموعة عرقية متميزة.

الاستياء الذي عبر عنه سكان باتاني الكبرى إزاء السيطرة التايلندية، لم يكن امرا مفاجئا، وسرعان ما أعقب الشعور الواسع بالاستياء تمرد على هذه السلطة. فقد بدأت مقاومة باتاني للهيمنة السيامية مع بداية محاولة بانكوك تشديد قبضتها على ممالك الملايو. ثار عبد القادر قمر الدين، وهو من الطبقة الارستقراطية في باتاني، ضد بانكوك، لكنه هزم وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، ولكنه قاد فور إطلاق سراحه تمردا أخر ضد الحاكم السيامي، اذ ان مصدر استياء سكان باتاني، كان بسبب محاولات بانكوك فرض قوانين تايلند، فضلا عن رفضها الاعتراف بلغة المالاوي والقوانين الإسلامية في المنطقة. ولكن عبد القادر قمر الدين عاد وتراجع الى كيلانتان عقب تمرد آخر فاشل عام 1915، وكانت كيلانتان خاضعة للحكم البريطاني غير المباشر. وحاول قمر الدين إعادة تجميع قواته بمساعدة من السلطان محمد الرابع، سلطان كيلانتان.

شن قمر الدين عام 1922 اكبر حملة له ضد الحكومة السيامية ردا على سياسة بانكوك التعليمية الجديدة التي فرض بموجبها على سكان باتاني الالتحاق بمدارس تايلند الحكومية وتعلم اللغة السيامية ايضا، اذ اعتبر قمر الدين هذه الخطة محاولة متعمدة لمحو هوية باتاني الملايوية، وإدخال سكان باتاني للديانة البوذية. ففشل ذلك التمرد بسبب المساعدة العسكرية البريطانية لسلطات بانكوك.

الى ذلك سعت الحكومات التايلندية المتعاقبة خلال القرن الماضي الى تهدئة المسلمين من سكان المحافظات الجنوبية باستخدام المحفزات المالية تارة، والتهديد باستخدام القوة والعنف تارة أخرى. إلا ان هذه السياسات كانت موجهة في معظم الأحيان الى دمج سكان هذا الجزء في التيار العام للديانة البوذية في البلاد.

ولدى وصول الأفكار الفاشية الى تايلند من أوروبا خلال ثلاثينات القرن الماضي، اعتُبر مسلمو الملايو «أعداء من الداخل»، كما حدث لليهود تحت ظل الحكم النازي.

ومن هنا أصبحت الولايات الجنوبية معقلا للنشاطات الشيوعية والأعمال المناوئة للدولة، واصبحت خلال عقد السبعينات مخبأ لعناصر الحزب الشيوعي الماليزي، الذي أجبر اعضاؤه على الاختفاء والعمل السري، فيما أصبحت مناطق جنوب تايلند قواعد لعدد من مجموعات الملايو الانفصالية، مثل «الجبهة الوطنية لتحرير باتاني» و«منظمة تحرير باتاني المتحدة».

والى ذلك ظل الجيش التايلندي يخوض على مدى عقد كامل تقريبا حملة ضد حرب العصابات التي تقودها مجموعات الملايو. وتم تصنيف هذه المجموعات خلال الحرب الباردة وصعود قوة الولايات المتحدة كمنظمات «إرهابية» او «يسارية». وفي وقت لاحق فتحت الهزيمة النهائية للجماعات والأحزاب اليسارية، بما في ذلك الحزب الشيوعي، الباب على مصراعيه أمام ظهور عناصر إسلامية متطرفة وسط مسلمي الملايو في مناطق جنوب تايلند. اما سياسات حكومة ثاكسين، فلم تكن في واقع الأمر سوى تشجيع لمثل هذه التوجهات.

ربما يكون ثاكسين قد اعتقد بان لديه الضوء الأخضر للاستمرار في فرض هذه السياسات بجنوب تايلند، ولا شك في ان الإعلان عن تايلند حليفا رئيسيا للولايات المتحدة في الوقت الراهن، يجعل الأوضاع تبدو في مصلحة ثاكسين، إلا ان الحكومة التايلندية ستكون ساذجة لو اعتقدت ان رضاء الولايات المتحدة عن سياسات بانكوك أمرا ثابتا لن يتغير مستقبلا.

حديث ثاكسين حول «الحرب على الإرهاب» ليس حقيقة، فضلا عن انه يتسم بالخطورة ايضا. حقيقة الأمر هي ان غالبية مسلمي تايلند، بمن في ذلك غير المنتمين لمجموعات الملايو في الشمال، يُعاملون على اعتبار انهم مواطنون من الدرجة الثانية. فقد جرى استبعادهم من التنمية الاقتصادية للبلاد في السنوات الاخيرة ، في الوقت الذي حاولت فيه مجموعة من القوميين التايلنديين الهيمنة على هويتهم الثقافية وعاداتهم الدينية. ويبقى القول ان الفقر والظلم والقمع واقع يعاني منه غالبية مسلمي تايلاند، وهذه قضايا لا يمكن بالطبع حلها بالقوة أو بطيور اللقلق الورقية.