في الأفق طبخة

TT

طالما ارتبطت «الطبخة» في أدبياتنا السياسية بالمؤامرة، وقد يكون الربط هذا ظالما، فالطبخة تعد للأكل، والأكل مسألة أساسية للحياة وللبقاء، فمن لا يأكل يموت، ومن لا يمتلك مواد الطبخة ومقاديرها وأدواتها والنار التي تطبخ عليها، فلن يتمكن من الطبخ، وبالتالي فهو معرض للجوع ومن ثم سوف يموت.

بينما ارتبطت المؤامرة بالعمل الخبيث، وبالسرية والتكتم، وبقول شيء من أجل فعل شيء آخر، وبطرف متآمر على طرف مغيب عن المتآمرين وأضلاع المؤامرة.

شيء ما يلوح في الأفق هذه الأيام، فالكل يبشر بالانفراج في القضية الفلسطينية بعد موت عرفات، ولاحت تباشير حركة جديدة في العلاقات بين مصر وإسرائيل، فمصر أطلقت الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام مقابل إطلاق سراح ستة طلاب مصريين اعتقلتهم إسرائيل بحجة التآمر للتفجير في إسرائيل، وصدرت من القاهرة وتل أبيب تصريحات تشير إلى ترتيبات جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين.

والفلسطينيون من جانبهم اتفقوا في حركة فتح على ترشيح محمود عباس ـ أبو مازن ـ لانتخابات الرئاسة المزمع عقدها في يناير المقبل، وبارك ذلك الترشيح مروان البرغوثي، ثم تراجع وأعلن ترشيحه، فهددت الحركة بطرده منها ما لم يلتزم بقرارها، وجاء التهديد على لسان فاروق قدومي ـ أبو اللطف ـ وهو المحسوب على الجناح السوري في الحركة، مما يعني المباركة السورية على الترشيح، وجاءت هذه المباركة باستقبال السيد أبو مازن في دمشق، استقبالا أعقبته تصريحات إيجابية حول استئناف العلاقات بين الجانبين التي شابها الفتور والتوتر أيام الراحل أبو عمار.

بل وحتى حركة حماس، أصدرت تصريحات أكثر ليونة متوافقة مع نسمات وروائح الطبخة، فقد أعلنت أنها على استعداد للانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية ضمن شروط معينة، الأمر الذي يفهم ضمنيا على أنه استعداد الحركة للتعامل مع العملية السلمية.

وحتى ليبيا، التي عاشت طويلا على شعارات الثورجية الخضراء، وجهت دعوة لنائب رئيس الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) لزيارتها، وذلك ضمن نهج ليبيا الجديد بمد يد الانفتاح الجديد لليبيا الجديدة.

شارون وحده، يبقى خارج إطار هذه الطبخة انتظارا لنضوجها، فهو لا يزال يناور بمشروعه الداعي إلى انسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة، بينما يعمل على لملمة بيت حكومته تحسبا للقادم من المتغيرات.

ولعل إيران تحسب أوراقها أيضا، أو لنقل مقاديرها، وما دمنا بصدد الحديث عن الطبخ، فطهران من ناحية تستشعر طبخة ترغب في الجلوس الى طاولة التهامها، ومن ناحية أخرى ترفض التخلي عن نسبة مقاديرها في الطبخة، ومن ثم احتمال استبعادها.

قيل كثير في الطبخ وفنونه، وقيل في توقيت الحضور إلى موائد الأكل لمن يصل وقت تقديمها: «حماتك بتحبك»، كناية عن أنه وصل في التوقيت المناسب، فمن يفوته تقديم الأكل قد يبيت جائعا، فقيل: «خاطر الليل مجفي»، أي أن زائر الليل فاته العشاء وليس له سوى الجفاء.

وكان الغاصة في البحر يأكلون وجبة واحدة، وحين تقدم يصيح الطباخ: «التالي ما يلحق»، أي أن من يصل آخرا فلن يجد شيئا يأكله.

كما أن مثل «من كانت أمه الطباخة شبع»، ينطبق على شارون، أي أن يتلكأ بسرية لأنه يدرك أن أمه الطباخة ـ أمريكا ـ سوف تحتفظ له بعشاء ساخن وهانئ، حتى إن جاء متأخرا وقت تقديم الوليمة.

ولعل أكثر الأمثلة مطابقة لواقع طبخة الشرق الأوسط، التي هي على نار هادئة الآن، هو المثل القائل: «الطبخة إذا كثر طباخوها، احترقت».