أميركا والعراق: مادة جديدة وراء الرسوب

TT

بين ما يمكن أن أقوله عن الخريطة التنظيمية للاستخبارات الأميركية، التي تبناها الكونغرس أول من أمس إنها توليفة سيئة جدا، فالعناوين والوظائف الجديدة تجلس في القمة، ولكن بدون خطوط واضحة لتأثير مصادر المعلومات على الأرض. ومن بين ما تعلمته خلال 25 عاما من عملي في الصحافة (التي هي مجرد شكل آخر من جمع المعلومات) هو: كلما أضفت طبقة جديدة من المحررين على قمة الصحافيين، ولم تتخلص من بعض محرري الطبقة القديمة، فان كل ما تحصل عليه هو المشاكل فيما تصبح أقل براعة.

ولذلك فالسبيل القويم لتحسين الاستخبارات الأميركية، هو وضع مزيد من الأشخاص على الأرض ممن يتحدثون اللغات التي نحتاجها، وممن يمكنهم التفكير بطريقة غير تقليدية. واذا كان ذلك يبدو في غاية الوضوح بالنسبة لكم، وذلك هو واقع الحال، فان ندرة مثل هؤلاء الأشخاص، على وجه التحديد، هي التي تفسر بالنسبة لي اخفاق أميركا الاستخباراتي الأعظم في العراق، وهو اخفاق ندفع ثمنه غاليا في الوقت الحالي. فأنتم ترون اننا لم نقم بغزو العراق سريعا، لأننا في واقع الأمر غزوناه بعد عشر سنوات.

ودعوني أوضح الأمر، فالاخفاق الاستخباراتي الأعظم لأميركا، لم يكن في أو مع أسلحة الدمار الشامل التي اعتقدنا أنها موجودة هناك، ولم تكن، انه أشخاص الدمار الشامل الذين اعتقدنا أنهم غير موجودين هناك، وكانوا موجودين. وهناك في العراق منهم ما هو أكثر بكثير مما كان يعرفه أي إنسان، ومن هنا كان اخفاق الاستخبارات الأميركية في فهم ما كان يجري داخل المجتمع العراقي، خلال فترة عقد من الزمان أو يزيد، من العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، والتي سبقت غزونا، كان ذلك الإخفاق هو مفتاح الكثير من المشاكل التي واجهناها في عراق ما بعد صدام.

لقد سحقت عقوبات الأمم المتحدة المجتمع العراقي، وهو مجتمع لحقت به هزيمة جراء حرب الثماني سنوات بين العراق وايران، وحرب الكويت، وما يقرب من 30 سنة من طغيان صدام. وطحنت الصدامية والعقوبات العراقيين خلال سنوات التسعينات، وغادر الكثير من الناس ذوي المواهب والكفاءات بلادهم، والى ذلك تم إبلاغ إدارة بوش، قبل الحرب، بأن العراق يمتلك النخبة العلمانية الأكثر موهبة في العالم العربي، وكان ذلك صحيحا. وكانت المشكلة الوحيدة، أنه خلال سنوات التسعينات، انتقل كثيرون من تلك النخبة الى عمان ودمشق وبيروت وأبوظبي والبحرين والقاهرة، حيث عملوا كأساتذة ومعلمي موسيقى ومهندسين.

وفي غضون ذلك، كانت المعاناة تطحن أولئك الموجودين داخل العراق، ممن لم يكونوا قادرين على الحصول على امتيازات حزب البعث، فالكثير من الشباب العاجزين عن التواصل مع العالم الخارجي، وعن الحصول على وظائف داخل البلد، اتجهوا الى الدين، وشجع صدام هذا التوجه عبر برامج مدروسة بإتقان، وبتطويق نفسه بهالة الاسلام، وكان بذلك يأمل ايضا في دعم شرعيته المتآكلة.

وأنتم تعرفون ان جميع أولئك الشباب العراقيين الملثمين، الذين ترونهم في أشرطة الفيديو التي تعرضها قناة الجزيرة الفضائية، وهم يحملون الأسلحة ويقفون على رؤوس بعض الجانب، موشكين على قطعها، انهم نتاج العقد الأخير من الصدامية والعقوبات. فقد كان أولئك الشباب في العاشرة من العمر عندما بدأت عقوبات الأمم المتحدة، انهم الفطر الذي زرعه صدام ومعه العقوبات، في فترة سادها الظلام، ولم تكن لفريق بوش فكرة عن وجودهم هناك.

ان أولئك الشباب من العراقيين السنة العاطلين عن العمل، ممن يعيشون الذل، والذين اقتلعت الظروف المشار إليها جذورهم، هم مشكلتنا الكبرى اليوم. ومن الواضح أن بعضهم اصبحوا مفجرين انتحاريين. ولا يمكننا القول ما هي نسبة الانتحاريين، ذلك أنه على خلاف الفلسطينيين، فان المفجرين العراقيين الانتحاريين لا يهتمون حتى بابلاغنا بأسمائهم، أو يسجلون أشرطة وداع لأمهاتهم، انهم ليسوا فقط مستعدين للانتحار حسب الطلب، وانما هم مستعدون أيضا للقيام بذلك بطريقة مجهولة، ويكشف ذلك عن مستوى عال جدا من الالتزام أو الاضطراب العقلي أو كليهما.

ويمكنني أن أقدر ان القوات الأميركية ضربت ما يزيد على 200 من هذه الصواريخ البشرية، وما نزال غير متوثقين من الطريقة التي جرى بها تجنيدهم ونشرهم. ان ما نواجهه، حسب اعتقادي، هو سلسلة تجهيز تجري بسرية لانتحاريين من النوع الخام، وهم توليفة متقلبة بين أسواق من الخطابة تتنازعها. ويبدو أن المنظمين يستخدمون التواصل المباشر والانترنت لتجنيد المفجرين الانتحاريين من العراق والعالم الاسلامي الواسع، فيما يتم نقلهم عبر حلقات التجهيز الى صناع القنابل في الميدان، ليقوموا بربطهم بالأسلاك، ومن ثم نشرهم في مواقع ضد القوات الأميركية والأهداف العراقية التي يحددونها.

ولا يتم كل هذا في اطار من المصادفة، لأن هذه التفجيرات مؤقتة لخلق أقصى درجة من الصدمة والتأثير على الآخر، وذلك يعني ان المتمردين واثقون تماما من قدراتهم على تجهيز تلك القنابل البشرية. انه شيء يشبه سلسلة التجهيز التابعة لأسواق وول مارت: فانت تشتري منتجا في وول مارت بأركانساس، ومنتجا آخر مصنوعا في الحال في الصين. ومن هنا، فمع العراق تجد المشهد مشابها، إذ تنشر مفجرا انتحاريا في بغداد، بينما يجري اعداد آخر في الموصل أو غيرها.

ولذلك، فعندما يكون لدينا اشخاص في الاستخبارات الأميركية، قادرين على تفسير كيفية عمل خريطة التدفق التنظيمية تلك، فمن الممكن لي وقتها أن أشعر بأمان أكبر.

* خدمة «نيويورك تايمز»