هكذا تكلم مشرف من لندن

TT

يحاول الرئيس الباكستاني برويز مشرف تطبيق الانضباط discipline الذي تعلمه في الجيش، على دوره كرجل دولة، في التزامه باستراتيجية لتطوير العلاقة باتجاه ايجابي بين ما يسمى مجازا العالم الإسلامي والعالم المسيحي.

وهناك بالطبع اشكالية طبيعة وصول الجنرال مشرف للحكم بانقلاب عسكري، ورفضه تعليق اليونيفورم «الزي العسكري» في دولاب الملابس، بعد استبداله ببدلة السياسي، وان كان لا يستطيع تفادي الحركة التلقائية برفع يده اليمنى الى جبهته، التي تحتفظ بها ذاكرة عضلات ذراعه الأيمن، بتدريب التحية العسكرية عندما يصفق له مستمعوه، مثلما حدث في محاضرته في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن يوم الثلاثاء الماضي.

لكن تبرير مشرف، الذي اقنع البرلمان بتغيير القانون، كي يسمح له بالاحتفاظ بمنصبي رئيس البلاد ورئيس الجيش، وجد نفسه تقليديا، هدفا للتكنوقراط ورجال اعمال في شكواهم من فساد السياسيين، وليلاحقه من ثم سؤال حول لماذا لا يفعل شيئا يتدخل به للحد من الفساد.

ومع تحفظاتي على تباطؤ الرئيس مشرف في اعادة الديموقراطية التعددية بالنموذج البريطاني البرلماني، كما هو الحال في الهند المجاورة، خاصة ان الاثنتين كانتا بلدا واحدا كجزء من الإمبراطورية البريطانية، التي اتبعت معظم بلدانها نموذجها البرلماني الديموقراطي بعد الاستقلال، وهو شرط لعضوية الكومنولث، الا ان استراتيجيته لمكافحة الإرهاب، والتوصل لتفاهم بين الشرق والغرب، تستحق الدراسة والعمل على وضعها موضع التطبيق.

شرح مشرف استراتيجيته تلك في محاضرته، وفي حديثه للبرلمانيين البريطانيين في وستمنستر، وللرئيس شيراك اثناء زيارته لباريس، وفيها بدأ بالتركيز على ضرورة حل القضية الفلسطينية والتوصل لتسوية عادلة ومرضية للطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، كشرط لتقليص المساحة التي يتم فيها تجنيد المتطرفين الشباب من الأمم الاسلامية المختلفة; كما ناشد ايضا بلدان العالم والقوى الكبرى بالتوسط لحل نزاع كشمير بين اطرافه الثلاثة، الهند، وباكستان واهل كشمير انفسهم.

صادفت زيارة مشرف للندن هجوم الارهابيين على القنصلية الأمريكية في جدة، والذي كان ضحاياه من السعوديين والمسلمين انفسهم، ولذا جاءت محاضرته، التي خصص قسما كبيرا منها لمكافحة الارهاب، جيدة التوقيت، لأن هدف الهجوم الارهابي كان البلد الذي توجد فيه اهم المقدسات الاسلامية، ويشار الى أن مشرف كان قد ناقش مع الرئيس جورج بوش في الأسبوع الماضي الاستراتيجية نفسها، محذرا من تركيز السياسة الأمريكية على الحل العسكري، دون استراتيجية شاملة بعيدة المدى.

والى ذلك دعا مشرف الى شراكة بين الغرب والأمم التي تعتنق الاسلام، الى جانب السير في طريقين متوازيين لمعالجة الارهاب، خاصة ان ضحايا الارهاب، الذي تمارسه جماعات تسمى نفسها باسماء اسلامية، هم أكثر عددا بين المسلمين.

ومن هنا رأى أن العمل العسكري لتصفية قواعد الارهابيين وتغيير الأنظمة التي تحميهم، والقضاء على الجماعات المسلحة، كما حدث في افغانستان، او مع نجاح الأمن المصري في تصفية الارهابيين، او انشغال الأمن السعودي في اعتقال الارهابيين وتضييق الخناق عليهم حاليا، هو خيار لا بديل عنه في خط المواجهة الأمامي مع الجماعات التي فات اوان الحوار معها، وأن هذا العمل يجب الا يقتصر على امريكا وحدها، بل يجب ان يكون مبادرة للمسلمين انفسهم.

أما المحور الآخر فيكمن في مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، خاصة في البلدان الاسلامية في افريقيا والشرق الأوسط وآسيا.

وهنا نأتي لمنظومة من الإضاءات التي أراها مهمة. فالعمل العسكري قد ينجح مؤقتا، ولن يصلح كحل على المدى الطويل، كما إن منع اعادة تجنيد المتطرفين للشباب المضلل لن يتم الا بمشاريع اصلاح اقتصادي شاملة، وبتوفير سبل العيش للملايين في البلدان التي يتسلل فيها المتطرفون الى قلوب وعواطف المحبطين من الفقراء، وكذلك بتوفير امن اجتماعي مؤقت في شكل أعمال خيرية، او رعاية صحية او خدمات اجتماعية، عجزت ميزانية الحكومات، اما بسبب نقص الامكانيات او بسبب الفساد، عن الاضطلاع بها. فنظام المدرسة الذي اعتمد عليه الملا محمد عمر لانشاء طالبان، هو حل اقتصادي يتمكن الأب الفقير معه من تقديم اولاده للمدرسة التي يقيمون فيها وتنفق عليهم، لكنهم لا يدركون من العلم الا ما يقدمه الملا عمر.

بلدان العالم الأول لديها امكانيات كبيرة، سواء بتحويل تطبيق العولمة الى وسيلة لمساعدة الفقراء وتوسيع رقعة فرصة الكسب، او بتمديد اتفاقيات التجارة العالمية، خاصة بانهاء دعم السلع الزراعية المنتجة في الغرب، مما يجعل اسعارها اقل من اسعار المنتجات الغذائية والزراعية في البلدان الفقيرة، وبالتالي يزيد من فقر المزارعين في العالم الثالث..

كان مشرف صريحا في النقد الذاتي لدور البلدان الاسلامية في مسألة التطوير الاقتصادي، وتقصيرها في محاربة الفساد، حيث تضيع المعونات وقروض البنك الدولي بذهاب معظمها الى بنوك في الغرب. ومثلا، فهناك مناطق تعتبر Tax Havens، تعفى فيها الدخول من الضرائب، وهي تابعة اداريا للدول الكبرى، وتمتلئ هذه البنوك بحسابات رجال الحكم والاداريين في ديكتاتوريات العالم الثالث، التي تحول ميزانيات الشعوب ومعونات العالم الأول والقروض الى هذه البنوك الخاصة، ولا يعفيهم ذلك من دفع الضرائب فحسب، بل ايضا من انكشاف امر سرقتهم للشعوب. ولا جدوى من محاولة مساعدة البلدان الاسلامية اقتصاديا، بشطب ديونها مثلا، اذا ما استمر الفاسدون في تحويل الميزانيات الى بنوك يحميها الغرب.

ولذلك فالمطلوب تعاون الطرفين، البلدان الاسلامية بمكافحة فساد مسؤوليها، والشفافية في المعاملات، مع التزام الغرب بعرقلة تحويل اموال العالم الثالث المسروقة الى مناطق الاعفاء من الضرائب. والمطلوب ايضا النظر بعقلانية الى العولمة، بدلا من محاربتها كظاهرة امريكية. فمعاداة امريكا اصبحت تذكرة دخول نادي المثقفيين، والظهور في تلفزيونات هذه البلدان كمفكرين يحافظون على الثقافة القومية. يجب دراسة استغلال العولمة لتحسين الأوضاع الاقتصادية للفقراء، مستهلكين ومنتجين، ولخلق فرص عمل.

اشار مشرف لارتباط الارهاب العالمي، خاصة القاعدة وطالبان، بتجارة الأفيون والهيروين، فأفغانستان مثلا المصدر رقم واحد للهيروين في العالم ، فيما يتم تهريب ثلاثة ارباعه عن طريق باكستان. ومن الغفلة محاولة القضاء على تجارة الهيروين دون تقديم بدائل اقتصادية لمن يعتمد كسبهم للقوت على زراعة نبات الأفيون Poppyوتجارته. وهنا يمكن للتعاون بين الحكومات والبنك الدولي والشركات، كجزء من العولمة، توفير هذه الوسائل قبل القوانين وحملات البوليس.

ويتفق معظم مثقفي العالم، والمفكرين في الأمم الاسلامية مع الرئيس مشرف، على دور المسلمين انفسهم، بعزل الفكر المتطرف. فجيوش العالم كلها لن تستطيع القضاء على فكر تجنيد الشباب للارهاب، وانما هو دور الشعوب المسلمة.

ذكر الرئيس مشرف رؤيته لأربعة مسلمين بريطانيين، من اصول سورية واردنية وباكستانية، وقفوا بمكبر للصوت على ناصية الشارع الذي مرت فيه سيارته، يهتفون بشعارات تكفر جميع حكومات البلدان الاسلامية دون استثناء، ويطالبون بعودة الخلافة الاسلامية لتحكم العالم كله، متسائلا اين وفي أي عصر يعيش هؤلاء؟

وتساءل: لماذا لم تدعوهم لهذه المحاضرة كي أناقشهم؟ ولما اخبره احد الحضور انهم لايؤمنون بالحوار وانما بتكفير من لا يتفق معهم، قال: «واجب اغلبية المسلمين هنا عزل فكر هؤلاء وعدم السماح لهم باختطاف Hijack الرايات والقضايا الاسلامية. خاصة ان كاميرات التلفزيون تركز عليهم كمظهر مثير.

وليس لدي ما اضيفه سوى ضم صوتي الى صوت الرئيس مشرف، بدعوة المثقفين المسلمين حول العالم الى عدم السماح لنفر من المهووسين باختطاف الدعوة الاسلامية، وتحويلها الى صاروخ موجه لصدور المسلمين قبل غيرهم.