"المتلفت لا يصل"

TT

سحرتني ذات دهر جملة قصيرة لنجيب محفوظ وردت في "ثرثرة فوق النيل" وقد رددتها بيني وبين نفسي طويلا محاولا تطبيقها وفشلت، فأنا من نوع يلتفت ويندم ويعيش بين لو ولولا، ويصح ولا يصح، وماذا وإذا وهل؟ ويحاول ألا يؤذي مشاعر نملة في وقت تدوسه فيه الخراتيت وتطحنه أقدام الأفيال.

"المتلفت لا يصل"، هذه هي العبارة السحرية للنجاح والتي لم ترد في الثرثرة فحسب، فقد تبناها نجيب محفوظ وطبقها، وهذا ما يغيظني فيه، فالغيظ هنا أدق ممن يعجبني ولا يعجبني وينصب الحكم على الكاتب لا على المكتوب لأن النص الأدبي والاعجاب به من عدمه هو في النهاية مسألة ذوق ونادرا ما تلتقي الأذواق مهما تقاربت.

الذي يغيظني في هذه العبقرية الأدبية النادرة أن صاحبها يمثل أصدق تمثيل نموذج ـ الرجل القطار ـ فأنت تعرف المحطة التي انطلق منها والمحطات التي وقف فيها والمحطات التي سيعبرها، وهذا كله نتيجة نظام دقيق ألزم به نفسه وطبقه فصار كالقطارات الألمانية حتى لا نقول الإنجليزية التي صارت كالقطارات العربية تتحرك على هوى السائق وحسب التساهيل.

لقد كان نجيب محفوظ أديبا منظما وموظفا محترما ومن الطبيعي ألا يحب الفوضويون ذلك فمن ذا الذي يصبر على وظيفة بالأوقاف حتى يحال الى المعاش فيخلق لنفسه وظيفة وتوقيتا جديدا في المقهى حتى لا يحرم الناس من متعة ضبط ساعاتهم على مواعيد مشاويره المرسومة أيضا بدقة متناهية.

أعرف سلفا أن هذه صفات تمتدح ولا تذم لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الاعتقاد بان الرجل القطار قد يكون كالسكة التي يسير عليها لامع وبراق من الخارج لكنه يختزن في داخله برودة صلدة فرجل النظام سواء كان أديبا او عسكريا أو مخبرا لا يترك لعواطفه مجال التحكم في سلوكه وقراراته.

الحياة العاطفية لنجيب محفوظ تساعد على دعم هذه الفرضية فقد تزوج وظل زواجه سرا إلا على المقربين لمدة ربع قرن والحب الوحيد الذي يحكي عنه هو حبه لبنت الأكابر في قصر العباسية الذي سيرويه فنا في أكثر من رواية وعلى لسان أكثر من شخصية منها كمال عبد الجواد في "قصر الشوق".. عايدة شداد يا قضائي ويا قدري..

وقد أحسن الصديق جمال الغيطاني صنعا في "نجيب محفوظ يتذكر" حين اقتطف للحديث عن ذلك الحب الكبير والأول ولعله الوحيد فصل صفاء الكاتب من "المرايا" ومن خلال حكايات جمال عن نجيب وجدت تفسيرا جديدا لإخفاء أمر الزواج ـ الوحيد أيضا ـ فقد كان الكاتب الكبير يراعي مشاعر والدة تفضل له غير ما حصل عليه وتعد لترتيبات أخرى.

الأمر الثاني الذي يغيظني من القطار العبقري ترويجه لفكرة الاستقرار والتبليط في مكان واحد، وكثيرون من الكتاب الذين احترفوا عادات البدو الرحّل في التنقل المستمر يحسدونه على مثل هذه العادة ترتبط قطعا بالنظام والجداول التي وضعها لنفسه وحركته.

مع الرجل القطار لا قلق ولا حيرة ولا مفاجآت، فكل شيء مرسوم من قبل ومعروف بدقة حتى أجوبة الامتحانات، أو ليس هو القائل على لسان بطل قصة "التنظيم السري".. ما هو إلا امتحان وككل امتحان فالأجوبة الصحيحة معروفة من قبل.. قبلة على جبين أجمل قطار.