فكرة فيدراليات العراق.. ما لها وما عليها

TT

بحث نحو 600 شخصية، يمثلون محافظات الفرات الأوسط الشيعية الخمس، (النجف، كربلاء، بابل، القادسية، المثنى) تشكيل مجلس موحد تمهيدا لإقامة فيدرالية الفرات الأوسط، وقبلها جرت اجتماعات في جنوب العراق، وحديث عن إقامة فيدرالية فيه، تضم المحافظات الشيعية الجنوبية

(البصرة، ذي قار، ميسان).

دوافع المنادين بهاتين الفيدراليتين، وهم يؤكدون أنها تقوم على أساس جغرافي وإداري، وليس على أساس قومي أو ديني، هي إدارة البلد بشكل لا مركزي، وان تتمتع الأقاليم بصلاحيات إدارية وتنفيذية واسعة، تتم مباشرتها بيد أبناء المحافظات، بغية تنفيذ النهوض والتنمية في المجالات الاقتصادية والعمرانية والمجتمعية، وهم يعتقدون بان تجارب الدول المناظرة قد أثبتت نجاح نقل السلطات الى الاقاليم، وايقاف تركزها في المركز الذي افضى الى البيروقراطية والتأخر. كما ان من شأن ايجاد مجالس إقليمية ممثلة لأبنائها، مع سلطات تشريعية وتنفيذية في حدود الإقليم، وبما لا يتعارض مع المهام السيادية للمركز، يجعل الأداء الإداري المحلي أفضل، ومن شأنه أن يوقف حالة الاحتقان والتأزم لدى أبناء هذه المناطق، والتي عانت ولعقود طويلة من الإهمال ومن سيطرة المركز الثقيلة، ومن إدارة شؤونها بغير أيدي ابنائها، وهم يتطلعون الى حلم استغلالهم لثرواتهم، التي يعيشون معها في اكبر تناقض صارخ، حيث الأرض تطفو على خيرات طبيعية هائلة، والناس فوقها تحت خط الفقر. وفوق ذلك، فهم ليسوا بحاجة الى ان يتطلعوا الى تجارب الشعوب الاخرى، لأنه يكفيهم أن ينظروا شمالا حيث يجدون ان المنطقة الآمنة الوحيدة في العراق هي اقليم كردستان. فالذي ينتقل من محافظة دهوك، اصغر مدن هذا الاقليم، والخالية من اي ثروات طبيعية ملموسة، الى ميسان (العمارة) في الجنوب، والتي تمتلك واحدا من اكبر مخزونات النفط المحتملة في العالم، فإنه يكون كمن انتقل من مدينة متقدمة في خدماتها وإعمارها وتنظيمها، الى مدينة لو طلب من رسام ان ينجز ابشع لوحة تبدعها يد انسان، لما استطاع ان يحقق أفضل من اللوحة السريالية التي ابدعتها يد النظام السابق لهذه المدينة، والتي تكفي الاشارة الى انها تنام على شبكة انهار وهي تشكو العطش! ولو أخذت عينة من دم أي من مواطنيها، لوجدت بجانب فقر الدم فقر العدل وفقر الحال. ولأن الإنجاز الذي حدث في اقليم شمال العراق، قد تم بموارد محدودة وتحت حصار مزدوج، الأول فرضه المجتمع الدولي، والاخر من النظام العراقي السابق، وفي ظل كابوس الذعر المستمر من اجتياح مرتقب يقوم به النظام لمناطق الشمال، فقد اضعف ذلك فرص جلب استثمارات طويلة الأمد لتلك المنطقة.

وبجانب هذه الاماني الوردية الدافعة لمؤيدي المشروع، وفضائل الأنظمة الفيدرالية وتوزيع السلطات ونقلها للأقاليم، فهناك قراءة سياسية أخرى للموضوع ممكنة، فالمجموعات الثلاث الرئيسية في العراق تفكر بحسب انتمائها العرقي او الديني او الطائفي، وانه واذا ما قدر للعراق ان يبقى دولة، فان ذلك لن يكون إلا من خلال فيدراليات لأي من هذه التكوينات، فتكون هناك فيدراليات شيعية بجانب كردية في الشمال، فيما تصبح بغداد مركز الدولة ووزاراتها السيادية، أما المنطقة السنية التي تشهد اضطرابات، فانها تستطيع ان تتمسك بخيارها، وان يكون لها نظامها الخاص، وان تعد أجهزتها الأمنية واداراتها. وكما يقول أحد السياسيين العراقيين، فان أهل «المثلث» اذا كانوا يرغبون في تكرار تجربة طالبان أخرى فحظا سعيدا..! وان كان ذلك من غير المحتمل، لكون هذا الاقليم، واذا ما تكون، فإنه سيعتمد على الاقاليم العراقية الاخرى بالاشتراك معها في موارد ثرواتها النفطية، مما سيدفع الإقليم نحو الاعتدال، فضلا عن ان العقلية التي حكمت للعقود الثماني الماضية في العراق، وترفض ان تعترف للآخرين بالمشاركة السياسية، تستطيع ان تطبق ذلك في اقليمها، وتترك الآخرين أحرارا في قيادة وإدارة مناطقهم، ومن شأن ذلك، في المقابل، ان يوقف من اللوم الموجه للكرد والشيعة.

والى ذلك، وبعيدا عن خصوصية فيدرالية كردستان التاريخية والقومية، فهذه الفكرة، وبرغم مبرراتها العملية، الا إنني اجدها خطرة، وتجعل القلب يقفز من مكانه، خوفا على وحدة وبقاء الكيان العراقي، برغم الاعتبار القائم والمشروع، بأن التلويح بأصعب الخيارات، ربما يكون أحيانا سبيلا لكي يعيد الرشد للآخرين. ومن هنا يصبح بوسع هذا الخيار إرسال رسائل متعددة. أولها : لإفهام كل الفرقاء والمكونات العراقية بان فكرة الفيدراليات تأتي لقطع الطريق على أي دكتاتورية محتملة مستقبلا، تطمح ان تسيطر على المركز وتخضع الأطراف بالتبعية، وبان ذلك لن يتم دون المجازفة بفرط عقد الكيان العراقي وتفكيكه. وثانيها : تأتي الفكرة كعامل ضغط على المحافظات

المتبقية، وتذكيرها بانها اذا استمرت بتوفير غطاء مجتمعي وتعاطف وبيئة حاضنة، وترديد لخطاب وقناعات الجماعات المسلحة، فان ذلك سيؤدي بالضرورة الى إضعاف سلطة الدولة وتهشيمها، تحت مطرقة هذه الجماعات. ذلك لأنك لا تستطيع ان تبقي على دولة موحدة، وفي الوقت نفسه تعمل وبشكل منظم على تدمير رموزها وقواها ومؤسساتها. وثالثها : موجه الى دول الاقليم والى قادة العمل الجماعي العربي المشترك، ومفاده أن العراق مهدد بوحدته، وان تدخل دول الاقليم ومحاولاتها استعداء الولايات المتحدة عبر اثارة مخاوفها، من «هلال» إقليمي تحت نفوذ شيعي يضم العراق وإيران وسوريا ولبنان، انما يقوم على وهم بأن الولايات المتحده، التى دعمت صدام فى حربه مع ايران، لإيقاف نفوذها من التمدد فى المنطقة، ستجد نفسها تعمل وترعى بنفسها حكومة اسلامية على النمط الايراني في بغداد، مما سينم عن رفض منها مع هكذا حالة لمكونات الشعب العراقي الاساسية، والتعامل معها كجاليات ممثلة لمصالح دول اخرى، مثلما سيدفع الرفض الاقليمي لهذه الكيانات من جهة الى الحضن غير العربي، ومن جهة اخرى الى التمحور والانكفاء على ذاتها، عبر تأسيس كياناتها التي من الممكن ان تكون وصفة جاهزة لتفتت العراق، وذلك آخر ما تحتاجه دول المنطقة.

ثم ان استمرار البعض من دول الجوار بدعمها وتشجيعها لحالات العنف المسلح في العراق إنما افضى، وسيفضي، الى إضعاف الدولة، ويقود اذا ما استمر، الى تنامي سلطات في الاطراف، على حساب المركز وسيقود ذلك الى التفكك أيضا.

من هنا، فالنصيحة التي يجب لها أن تسدى لتلك الفئات من العراقيين الداعمين لتلك السيناريوهات، هي أنه وبدل احتضان واستقبال الجماعات التي تستدرج الدعم من دول الاقليم، عبر إثارة مخاوفها من أخطار قادمة، وهي إنما تبرر بذلك فشلها السياسي وضعف أدائها المحتمل، فالأفضل لها أن تعود الى وطنها، وان تشترك في بناء مستقبله السياسي بالأساليب السلمية والمتحضرة، ونبذ وهم الهيمنة التاريخية، لأن ذلك وحده هو طريق وحدة العراق، وعلى الجميع ان يدركوا ان الاحتلال ذاهب، ولكن العراق كدولة جوار باقية، ومن هنا يجب عليهم ان يحرصوا على وحدته، خاصة وأن طريقة إخراج الدب من الغابة لا تتم بحرقها.