ما بعد اجتماعات منتدى المستقبل: خيار الإصلاح إلى أين؟

TT

مع أن منتدى المستقبل للإصلاح في العالم العربي الذي التأم بالرباط الأسبوع المنصرم، لم يفض إلى نتائج جوهرية ملموسة، إلا أن الإدارة الأمريكية التي رعته وساهمت في الإشراف عليه اعتبرته خطوة إيجابية مشجعة في مسار الإصلاح، الذي طالبت منذ خطاب الرئيس بوش في لندن في نوفمبر 2003 بعد أشهر قليلة من سقوط بغداد، ونهاية نظام حكم صدام حسين.

وبعد خطاب لندن، عرضت الإدارة الأمريكية عدة مقاربات، تجسدت في مبادرة الدول الثماني الصناعية خلال قمة سيسلاند في يونيو الماضي، التي أعلنت إنشاء منتدى المستقبل، وأرادته إطارا تشاوريا بين الأطراف الإقليمية والدولية، حول شؤون المنطقة، وفي مقدمتها ملف الإصلاحات الحيوية.

ولا شك أن أهمية الحدث في ما وراء زخمه الإعلامي المقصود، تتمثل في ظرفية انعقاده، التي تزامنت مع عدد من المستجدات الدالة، يمكن النظر إليها بصفتها مؤشرات تحول نوعي في مجرى الأوضاع الإقليمية، ولعل أهمها:

التحولات الفلسطينية الداخلية، بعد رحيل الرئيس عرفات، الذي أزال من المنظور الأمريكي والإسرائيلي العائق الأساس في مسار إحياء العملية السلمية، وفسح المجال أمام تركيبة جديدة للسلطة الفلسطينية، قد تكون أكثر ملاءمة لخيار التفاوض، حول صيغة الحل النهائي المطروحة (مشروع الدولة المستقلة الذي وعد به الرئيس بوش في برنامجه الانتخابي الأخير).

* آفاق الانتخابات العراقية الوشيكة التي ستجري في ظروف أمنية وسياسية متردية، فيما تسعى الإدارة الأمريكية على احتوائها بإشراك الأطراف الإقليمية والدولية، التي اجتمعت مؤخرا في شرم الشيخ دون التوصل إلى مساحة التوافق المطلوبة.

ولا تكمن أهمية الملفين الفلسطيني والعراقي في كونهما الأزمتين الساخنتين الأكثر حدة من أزمات المنطقة، ومن ثم فإن حلهما شرط مسبق لإعادة هيكلة المنطقة وإصلاحها، بل لكونهما أيضا ساحتي اختبار لمقاربة «الإصلاح» المطروح أمريكيا.

فالإصلاحات الفلسطينية المنشودة لتهيئة الأرضية الملائمة لإعلان الدولة المستقلة، تتمحور حول إعادة بناء المؤسسات الدستورية والديمقراطية، ومراجعة الاستراتيجيات الإعلامية والتربوية، لنشر «ثقافة السلم»، بدلا من «ثقافة المقاومة»، ومحاربة المجموعات التي تصنفها الإدارة الأمريكية في خانة «الإرهاب الأصولي».

ففضلا عن الضمانات التي توفرها معادلة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المسالمة لأمن إسرائيل، تشكل التجربة النموذجية المنشودة مسلكا للاحتذاء والاقتداء عربيا، بقدر ما تزيل العائق السياسي والنفسي أمام تطبيع العرب علاقتهم بإسرائيل، مما يمهد لمشروع الشراكة الأمريكية ـ الشرق أوسطية، الذي هو جوهر المقاربة الأمريكية لإعادة هيكلة أوضاع المنطقة.

ومن المفارقات المثيرة أن الشأن الفلسطيني شكل دوما خلال النصف الثاني من القرن المنصرم، نقطة الارتكاز المرجعية لكل المشاريع الإصلاحية والثورية العربية، انطلاقا من قناعة رائجة بأن هذا الموضوع، يتجاوز الحيز الوطني الضيق، وتتشابك فيه كل الرهانات الإقليمية والدولية، والصدامات الحضارية والاستراتيجية.

من هذا المنظور راهن اتجاه واسع في الفكر السياسي العربي على أن مسار التحول الديمقراطي في العالم العربي، سينطلق من الساحة الفلسطينية التي تشكل فيها مجتمع مدني حي ونشط قبل انبناء الدولة، وإن كانت تجربة الحكم الذاتي قد أوهنت هذا الأمل.

وتراهن الإدارة الأمريكية من المنظور ذاته على التجربة المتعثرة في العراق، بتسويقها خيارا نموذجيا للانتقال من النظام الأحادي القمعي إلى المجتمع الديمقراطي التعددي، القائم على المنافسة الحرة والتعايش السلمي، بين مختلف مكونات وأطياف الحقل السياسي المتنوع.

وبعد انكشاف وهم أسلحة الدمار الشامل في العراق، تحول هدف «الإصلاح الديمقراطي» إلى أساس شرعية التدخل العسكري (تحرير الشعب العراقي من الاستبداد والقمع)، وسوغ على نطاق واسع في أدبيات التيار المحافظ الجديد، بصفته مدخلا لإعادة ترتيب المنطقة وفرض التحولات الديمقراطية المنشودة فيها. فالمختبر العراقي يسمح بتجريب الحلول المطروحة، لحسم جملة من العقد الشائكة التي تعوق الانتقال الديمقراطي في البلاد العربية، من قبيل العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية، ومسألة التنوع العرقي والطائفي، ومنزلة المؤسسة العسكرية في الرهان السياسي. ولا شك أن المقاربة الأمريكية تتعرض لمصاعب حقيقية في ساحتي اختبارها، سواء في فلسطين حيث تقف مكبلة بقيود التحالف العضوي بين الولايات المتحدة والتيار الصهيوني اليميني المتطرف، الماسك بمقاليد الأمر في إسرائيل، أو في الساحة العراقية، حيث لم تفض معادلة الاحتلال إلى تطبيع الحقل السياسي، المتأرجح بين خياري الفتنة الأهلية والدولة الطائفية.

وعلى الرغم من تعثر المشروع الأمريكي في الساحتين الفلسطينية والعراقية، برز بجلاء خلال اجتماعات منتدى المستقبل الأخيرة، التي شارك فيها ممثلون رسميون وبعض تشكيلات المجتمع الأهلي، أن مطلب الإصلاح تحول بالفعل إلى واجهة الأجندة الإقليمية، ولم يعد بالإمكان الالتفاف عليه. بيد أن العوائق الموضوعية التي تعترض مسلك الإصلاح، راجعة إلى التباسه بآلية التدخل الخارجي التي تقوض جانبا وافرا من زخمه الشعبي، في مرحلة وصلت النقمة على السياسات الأمريكية في المنطقة مداها، بقدر ما أن العقل السياسي العربي، لا يزال عاجزا عن ترتيب الصلة بين هدف التحرر الوطني والقومي (الذي شكل المعين الأساسي للأيديولوجيات التعبوية القائمة) وهدف الإصلاح السياسي والمجتمعي، الذي تحول إلى دائرة اهتمام الجمعيات الأهلية وتشكيلات المجتمع المدني وروابط حقوق الإنسان، التي يؤدي أغلبها دور الوكيل الإقليمي للأطراف الخارجية، مما يزيد من مصاعب علاقتها بالأنظمة الحاكمة. فمن السهل تجييش الجموع وحشدها للتظاهر ضد الاحتلال الأمريكي للعراق أو العدوان الإسرائيلي في فلسطين، ومن الصعب تحريكها في اتجاه مطالب الإصلاح الداخلي.

لقد سألتني مرة إحدى الشخصيات الفرنسية المرموقة، المعروفة بتعاطفها مع القضايا العربية: لماذا يسهل على العربي الدفاع بروحه لمواجهة المعتدي الخارجي والمحتل الأجنبي، ويصعب عليه مجرد رفع الصوت للمطالبة بحقوقه السياسية؟

ولئن اختلفت مع محدثي في إرجاعه هذه الظاهرة إلى اعتبارات ثقافية بنيوية، فقد اتفقت معه على أنها معضلة فكرية وسياسية تحتاج للحل.