... ولمصلحة من يحدث هذا.. ؟

TT

احتدم الوضع مجددا في منطقة النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. ففي اعقاب تفجير النقطة الحدودية الاسرائيلية على الحدود بين قطاع غزة ومصر عاد الجيش الاسرائيلي مجددا الى شن الهجمات على قطاع غزة. وهكذا كانت فترة الهدوء النسبي التي شوهدت بعد رحيل ياسر عرفات قصيرة. ويجري هذا كله على مقربة من انتخاب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية المقرر في 9 يناير. وطبقا لأقوال العديد من القادة الفلسطينيين، فإنهم كانوا يعولون على عدم حدوث اشتباكات في فترة الحملة الانتخابية وفي اثناء الانتخابات، فيما سيتسنى الاتفاق مع الجانب الاسرائيلي بشأن انسحاب جيشهم من المناطق التي سيجري فيها التصويت. ومن هنا، واذا ما جرى تصعيد حدة التوتر، فستغدو الاتصالات بين الطرفين التي استؤنفت في اواسط شهر نوفمبر الماضي، في خطر واضح.

فلمصلحة من يجري هذا التصعيد ؟ يمكن إعطاء جواب واحد فقط على هذا السؤال، وهو ان المنتفع هو العناصر المتطرفة في الجانبين.

فالعالم العربي والمجتمع الدولي عموما رحبا بقيام «فتح» بترشيح محمود عباس رئيس منظمة التحرير الفلسطينية رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية. وهذا الامر لا يثير دهشتي البتة. فأنا اعرف محمود عباس على مدى بضعة عقود من السنين، والتقيته مرارا، ولا تراودني أية شكوك في انه يعتبر الشخصية المثلى كوريث للفقيد ياسر عرفات. ومن وجهة النظر الشكلية فإن ترشيح ابو مازن مبرر تماما، لأنه كان على مدى فترة طويلة نائبا لياسر عرفات في منظمة التحرير الفلسطينية، وترأس المنظمة بعد وفاته. زد على ذلك ان منظمة «فتح» رشحته لمنصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية. وهذه المنظمة تعتبر ليس فقط بمثابة «صلب» منظمة التحرير الفلسطينية، بل اثبتت على مدى اعوام كثيرة بأنها المناضل الرئيسي من اجل حقوق الفلسطينيين. وقد أيدت «فتح» ابو مازن بالإجماع. ولهذا الإجماع دلالته بصورة مضاعفة. ففترة تولي محمود عباس لرئاسة الحكومة خلال اربعة اشهر انتهت بسبب خلافاته مع قيادة «فتح» حول فصل الصلاحيات. ومعروف أن ياسر عرفات قبل استقالة محمود عباس بإلحاح من قادة «فتح». أما الآن فقد تغير الوضع تغيرا جذريا.

لكن القضية لا تكمن حتى في الجانب الشكلي للمسألة. ففي الوقت الحاضر تعلق أوساط كبيرة وكثيرة، في فلسطين وخارجها، الآمال الكبار على شخصية ابو مازن لجهة وضع حد للنزاع الدامي، والاتفاق على تسويته على أساس الحل الوسط. وفي الواقع لا يوجد سبيل آخر غير هذا الحل الوسط العادل، على قاعدة تنفيذ صيغة «الارض مقابل السلام».

والى ذلك فقد قام محمود عباس بعد ترشيحه بجولة في العديد من الاقطار العربية، وتتوافر منظومة من المسوغات للاعتقاد بأن هدفه الرئيسي كان اقامة قاعدة دعم متينة للمفاوضات مع اسرائيل. واظن ان زيارته الى دمشق ذات أهمية خاصة، لا سيما اذا تذكرنا بأن العلاقات بين القيادتين الفلسطينية والسورية كانت عدائية منذ عام 1993 بعد ان عقد عرفات اول اتفاقية مع اسرائيل، وقد أعادت زيارته لسورية العلاقات الى مجراها الطبيعي، كما اتاحت تنسيق خطوات الفلسطينيين والسوريين في المفاوضات مع اسرائيل مستقبلا. وهذا يسد الثغرة الخطيرة التي اتاحت لأسرائيل، حسب قول محمود عباس، استغلال ذلك الواقع للمناورة، علما بان المباحثات بين محمود عباس وبشار الاسد تمت بعد ان دعت دمشق اسرائيل في نوفمبر الماضي الى استئناف المفاوضات.

ومن جانبي، فأنا اتفهم مدى أهمية التقارب الحالي بين الفلسطينيين والسوريين، انطلاقا من احدى محادثاتي الأخيرة مع القائد السوري البارز الرئيس الراحل حافظ الأسد. فقد اتفق الرئيس معي تماما في الرأي بأن سورية لا تريد ان تكون أول من يوقع معاهدة صلح مع اسرائيل، لكنها لا تريد ايضا ان تضع توقيعها بعد ان يفعل ذلك الباقون، وأضاف حافظ الأسد قائلا ان سورية ربما ليست قادرة لوحدها على ايصال الأمر الى عقد معاهدة صلح مع اسرائيل، لكنها ستعمل جهدها من أجل ان لا تبقى معها وجها لوجه لوحدها. وليس من قبيل الصدف اني تذكرت هذه الاقوال، حين أدلى محمود عباس بتصريحه بشأن الاتفاق مع بشار الأسد، على أن يتمثل الجانبان مصالح بعضهما البعض خلال المفاوضات مع اسرائيل.

وبعد دمشق توجه الوفد الفلسطيني الى بيروت، علما بانها ايضا أول زيارة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية اليها، بعد اضطرار الفلسطينيين الى الخروج من لبنان في عام 1983. وفي 12 ديسمبر زار محمود عباس الكويت. ومعروف ان العلاقات بين سلطات الكويت والقيادة الفلسطينية قد انقطعت بعد ان ايدت منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1990 الغزو العراقي. وتحدث محمود عباس في مؤتمر صحافي عقد في الكويت، فصحح الخطأ وأعلن أسفه البالغ لكون القيادة السابقة أيدت أفعال صدام حسين. وقال نحن نتفهم الآلام التي جلبتها حرب عام 1990 الى شعب الكويت.

وفي اعقاب الكويت زار محمود عباس المملكة العربية السعودية، التي تمارس، وكما هو معروف، دورا كبيرا في تسوية أزمة الشرق الاوسط، بعد ان طرح ولي العهد الامير عبد الله مبادرته لتسوية النزاع العربي ـ الاسرائيلي وفق صيغة «الارض مقابل السلام». ويمكن اعتبار جميع هذه الزيارات تهيئة جادة لاستئناف مباحثات السلام مع اسرائيل.

من الجدير الإشارة أيضا الى ان خطط ما يسمى بـ«الرباعية» موجهة ايضا نحو استئناف المفاوضات، بدليل النشاط الدبلوماسي للوسطاء، ففي اواسط نوفمبر زار اسرائيل ومناطق السلطة الوطنية الفلسطينية خافير سولانا، المسؤول السياسي في الاتحاد الاوروبي، وتيري رود لارسن، المبعوث الخاص لهيئة الامم المتحدة في الشرق الاوسط. وبعدهما بأيام زار المنطقة كولن باول وزير الخارجية الاميركي، ثم جاء الى القدس ورام الله وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الذي توجه الى اسرائيل ومناطق السلطة الوطنية الفلسطينية فور اختتام اجتماع «الرباعية» في شرم الشيخ.

وكان لا بد لهذا كله أن يثير قلق من يحاول احباط احتمال تسوية النزاع في الشرق الاوسط. ولربما أصاب ذلك القلق فريق غلاة «المتشددين» الفلسطينيين، خاصة أن محمود عباس سعى، ابان وجوده في سورية، الى تقريب مواقف خالد مشعل وموسى ابو مرزوق، بصدد الهدنة مع اسرائيل، وهما من زعماء «حماس» الموجودين، ولربما ان قلقهم ازداد لكونه واصل في لبنان مثل هذه اللقاءات مع ممثلي الجماعات الفلسطينية غير القريبة من «فتح» ؟

اما المتشددون الاسرائيليون فهم أيضا في حالة من عدم الارتياح، وإن كانوا لا يبدونه علنا الى حين، تأهبا لتصعيد العنف الذي يضع حدا للتحرك نحو السلام في بداياته مع الظروف الجديدة، وهم الذين كانوا حتى فترة وجيزة، لا يدخرون جهدا من اجل اقناع العالم بأن من المستحيل التحرك نحو التسوية مع الفلسطينيين مع بقاء ياسر عرفات. وكنت من جانبي، شأن الكثيرين، لا اصدق ذلك الزعم لإدراكي بأن ياسر عرفات كان يصبو الى التسوية، لكن ربما لأنه قد بالغ لحد ما في تقييم امكانياته، علما بأن هذا لم يقلل البتة من كونه قد تحول الى رمز لفلسطين، وبدونه هيهات لفكرة الدولة الفلسطينية ان تصبح امرا واقعا.

فماذا سيحدث الآن؟

اعتقد ان ترشيح زعيم فلسطيني ذي روح بناءة، وبعد الانتخابات التي سيكون بها الزعيم الشرعي (اعتقد بأن محمود عباس سينتخب لمنصب الرئاسة)، سيخلط جميع اوراق الجزء المتطرف من مؤسسة السلطة الاسرائيلية. واذا ما علا إيقاع العملية السلمية، فسيتراجع التأييد في داخل اسرائيل وخارجها نحو خطط اقامة «جدار الأمن» وتوسيع المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية، والابقاء على نظام الاحتلال بهذا الشكل او ذاك في الاراضي الفلسطينية. ويساورني الشك في ان مزاج هذا الجزء المتطرف قد اعتدل بعض الشيء، بعد ان طرح لافروف وباول بإلحاح مسألة تمديد وقف تنفيذ العمليات العسكرية الخاصة في اراضي فلسطين. من جانب آخر، وجه كل من وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة النصح الى الفلسطينيين، وبإلحاح لا يقل عن ما قدماه لإسرائيل، بعدم السماح بالأفعال التي يمكن ان تستثير العمليات المسلحة من جانب الاسرائيليين.

من هنا يتواصل الأمل في أن يسود التفكير السليم، فتجري الانتخابات في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا يجف جدول السلام الذي يود المتطرفون من مختلف الأطراف ردمه بالرمال.

* وزير الخارجية الروسي السابق ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»