لا تجعلوا السيستاني لاعبا بين اللاعبين

TT

ُُسئل شاعر روسي، اذا كان يريد الدمج بين الدين والدولة، فقال لا بعد تفكير، معللاً موقفه بأن الكنيسة هي ملجاً الانسان عندما يضطهد من قبل الدولة، واذا اندمجا قضي على ذلك الملجأ أيضاَ.

ربما يعود جزء كبير من قوة واستمرارية المؤسسة الدينية الشيعية وتأثيرها الى استقلالها عن الدولة، بل حتى في الأوقات القليلة التي قامت بها دول شيعية، فقد حرصت المؤسسة على ان تبقي على مسافة بينها وبين السلطة الحاكمة، وهذا ما اضفى القوة على الارتباط بين المؤسسة واتباعها، وجعلها بمنأى عن تقلبات السياسة. وبعد تغيير النظام الذي جرى في العراق، امتد تأثير هذه المرجعية، ليس بين مقلديها الذين يمتثلون لوصاياها، بل الى قطاعات واسعة من المجتمع العراقي، بمن فيهم النخب المثقفة، وامتدت حتى خارج الطائفة، بل وأحياناً الى اتباع الديانات الاخرى في العراق، وذلك للموقف المتعقل الذي اتخذته والذي اظهر حرصاً على الصالح العراقي وعلى اموره الكلية، ولحد اعتبرها فيه البعض صمام أمان، خصوصاً في ظل انهيار كل المؤسسات الاخرى، ووقوف الجميع في مفترق الطرق، فكان موقفها الحريص على حقن دماء العراقيين، وعلى المسلك السلمي الذي اختطته، والذي اعتقدت انه الطريق الذي يوصل العراقيين الى نيل حقوقهم، اذ ان بديله ليس غير القتال الذي يغرق البلد في بحار من الدماء وفي معارك غير متكافئة، لذا فانها وبتعقلها كانت من يفزع اليه الناس في ازمتهم وعند الملمات.

اما عندما كانت المرجعية تتدخل في الشأن والعملية السياسية، فالتمييز كان هنا بين مستويين او اتجاهين في التدخل. الاول: يكون في شكل قيمي وارشادي لضمان عدم تقاطع التشريعات مع الثوابت الاسلامية، واتجاه التدخل عبر ممارسة رجال الدين للعمل السياسي، او الدخول في تفصيلات العملية السياسية. النوع الثاني: تجنبته المرجعية عبر فتاواها التي اكدت على اهمية المحافظة على روحانية رجل الدين بعدم الوقوع في الخطأ الذي ينجم عن المشاركة في المناصب الرسمية، وتفضيل الجانب الارشادي على ممارسة السلطة.

وهذا ينسجم مع الخط التقليدي للمرجعية في النجف، المؤمنة بالولاية المحدودة وليس الولاية المطلقة، كما هو الشأن في ايران، وقد اكدته مواقف السيد السيستاني، اذ انه وبرغم سيولة الحالة العراقية وتلاحقها وازدحامها بالاحداث والمتغيرات، الا انه لم يتعرض او يتعامل مع هذه المفردات، بل انه وحتى في القتال الذي جرى في الاماكن ذات القيمة الروحية، فالمرجعية لم تتخذ موقفاً جهوياً وإنما اكتفت بالحيادية والدعوة الى التهدئة. وهنا رد على الذين ينتقدونه بأنه لم يتصد لقضية الفلوجة وقبلها سامراء. ويتناسى منتقدوه هنا بأنه اخذ نفس الموقف من معارك النجف ومدينة الصدر، وهو الموقف الداعي الى تحقيق الأمن والاستقرار، وتطبيق القانون، وبأن لا بديل لسلطة الدولة. لكن المسألة الأهم والجديرة بالملاحظة، من خلال مراقبة الخط البياني لمواقف المرجعية، هي مراقبتها وتصديها للقضية الديمقراطية، وبالذات ادراكها بان الدستور هو أخطر وثيقة ستؤسس لمستقبل العراق وتشكله، حتى ان السيد السيستاني اعتبر ان معركة الدستور معركته، لذا نجد حرصاً متزايداً بان لا تأتي هذه الوثيقة الا من خلال هيئة منبثقة عن انتخابات وعن ارادة الشعب العراقي، وهذا المسلك الذي الزم به الولايات المتحدة واوضح لها بانه لم يقرأ عنها في كتب الشيخ المفيد او الطوسي بل تعلمها منهم أي الأميركيين. وربما يفسر هذا الحرص عمل اللجنة التي شكلت من قبل مكتب المرجعية لتنسيق الجهود من اجل قائمة انتخابية، ظناً بأنها تستطيع ان تجمع كل اطياف الشعب العراقي بداخلها، ومحذرا من ان تدفع الولايات المتحدة بمرشحين يهيمنون على المجلس، مما يقود الى تحكمهم بالانتقالات المصيرية، وأهمها محطة الدستور، وأن يصبح المجلس المنتخب غطاء شرعياً لأستحقاقات الاحتلال.

غير ان الذي لا يمكن تفسيره هو محاولة السياسيين الاتكاء على دعم المرجعية لقائمة انتخابية معينة، فهذا يتقاطع مع الدور المحايد الذي جاهدت لان تتخذه بين الفرقاء السياسيين، ويجعلها طرفاً في اللعبة مما يفقدها دورها المؤثر، ويزج بها في مفترق سياسي تنافسي شديد، يعود بالضرر عليها قبل غيرها. فماذا مثلا إذا لم تحقق القائمة التي ذهب الزعم الى أن المرجعية تدعمها، نسبا عالية من النجاح، ذلك سيضعف بلا شك من تأثيرها الواسع على الخريطة المجتمعية في العراق، وماذا لو فشلت الحكومة التي ربما ستنبثق عن هذه القائمة، فحينها سيتم احتساب اخطائها وضعف ادائها على المرجعية، ثم ان الحالة الطائفية والاثنية العراقية قلقة، ومن شأن اتخاذ موقف لصالح هذا التكوين او ذاك ان يجعله مؤذياً للنسيج المجتمعي العراقي، وان أي تدخل للدين في المعترك السياسي يجلب المقدس على شؤون سياسية يحكمها عامل المصلحة، ويوقع المقلدين في حرج في اختياراتهم، ما بين املاءات دينية وما بين تفضيلات دنيوية، ثم ان القوائم الانتخابية تمثل من الناحية النظرية برامج سياسية، فهل من واجب او من اختصاص او مصلحة المرجعية ان تدعم برنامجا سياسيا على حساب اخر.

فالدور المطلوب للمرجعية هو دفع الناس الى الانتخاب، وهو ما قامت به حتى مع الطوائف المسيحية، وحثهم على التعبير عن خياراتهم، وان تبقى فوق الميول والاتجاهات، وأن تبقى ابوية لكل الفرقاء وتظل كصمام امان لاستقرار ومستقبل ووحدة العراق، بعد أن اصبحت تمثل قاسماً مشتركاً وموضع تطمين لجميع العراقيين بطوائفهم واديانهم المختلفة، وهذا يتم عبر عدم تدخلها بفرض خيارات او قسر المجتمع باتجاه رؤى او خط معينة، وان تظل منسجمة مع شعار جميل رفعته في حملتها على الانتخابات بان (صندوق الاقتراع هو الضامن الوحيد لحقوق العراقيين، لنجعل من كل قطرة ماء من نهر دجلة ملكاً لخمسة وعشرين مليون عراقي، ولنجعل كل نخلة ملكاً لخمسة وعشرين مليون عراقي، ليكن مستقبل 25 مليون عراقي يقرره الاقتراع).

[email protected]