نبوءتان من دفتر السياب

TT

ذات دهر وفي ديوانه البديع «الفرح ليس مهنتي»، كتب محمد الماغوط قبل أن يتوقف عن الشعر قصيدة لزميل الحرمان والتسكع بدر شاكر السياب يخبره فيها ان عكازه بيد الوطن ويناشده أن يتمسك بموته ويدافع عنه بالأسنان والمخالب فلا شيء من العراق الجميل قد بقي ليعود إليه:

هل تضع ملاءة سوداء

على شارات المرور وتناديها يا أمي

هل ترسم على علب التبغ الفارغة

أشجارا وأنهارا وأطفالا سعداء

وتناديها يا وطني

تشبث بموتك أيها المغفل

وما كان الشاعر عن هذا الزمن يحكي بل عن آخر صار جميلا في عيون العراقيين اليوم، لا سيما وأن بعضهم يشعر بأنه لم يمر على العراق أسوأ من هذه الأيام غير عصر الحجاج.

بدر شاكر السياب الذي مات يوم ميلاد المسيح عليه السلام ضمر تدريجيا في المنافي والمستشفيات وأقعده الشلل حتى انتهى في المستشفى الأميري في الكويت بين ثلة عاشت لتخبرنا عن بعض عذابات ذلك الشاعر الذي يتماهى مع وطنه كما لا يتماهى شاعر آخر.

من هؤلاء ناجي علوش الذي كتب مقدمة ديوانه ثم اختفى مع اختفاء الأقلام القومية من الصحافة العربية، وسلمى الخضراء الجيوسي التي لا أعرف في أي منفى انتهت، والأقل حديثا من هؤلاء جميعا عن بدر الشاعر فاروق شوشة الذي زاره في مستشفاه قبل أيام من رحيله.

أما الأكثر إخلاصا لهذا الشاعر بين هذه الثلة التي تواجدت في الكويت منتصف الستينات (مات بدر شاكر السياب يوم 24 ـ 12 ـ 1964) فالشاعر الكويتي علي السبتي الذي حمل جثمانه الى البصرة ليدفن في مقبرة الحسن البصري ويكون قريبا نسبيا من جيكور.

عن تلك الساعات الأخيرة أخبرنا ناجي علوش ان السبتي وصل الى بيت الشاعر في البصرة ليريح الجثمان قبل المناداة على الدفن فلم يجد أحدا لأن الشرطة كانت قد طردت عائلة السياب من المنزل الذي تعود ملكيته لمصلحة الموانئ التي قامت بدورها بطرد الشاعر من الوظيفة لأنه استنفذ اجازاته المرضية ولم تسدد عائلته المتأخر من الايجار وفواتير الماء والكهرباء.

ولا أعرف لماذا كلما تذكرت هذه القصة أحس بغصة في القلب وأسأل نفسي: هل يوجد وطن يفعل بشاعر مشلول ما فعلته فئة من العراقيين ببدر شاكر السياب..؟

تلك ليست قسوة وطن، فالأوطان كالأمهات تؤنب ولا تقسو لكنها فظاعة جيل شرس حكم بلا رحمة وتصرف بعيدا عن أية لياقات حضارية ومهد لكل هذا الخراب الذي نشهده اليوم في عراق السياب والجواهري والحيدري والبياتي وجميعهم ماتوا في المنافي.

لقد أخبرنا بدر قبل أن يموت أن القدر يخبئ للعراق الكثير من الدم والجوع والعنف والأوبئة وانه موسم حفاري القبور ذاك الذي سيتلوه وصدقت النبوءة الأولى، لكنه أخبرنا أيضا أن العراق يزخر بالرعود والبروق وأن خلف هذه الغيوم السوداء مطر رحمة لا بد أن يأتي... مطر، مطر، مطر، مطر، العراق يصدق شاعره وما زال في أيام الميلاد ينتظر بشارة القيامة.