العراق: حين تصبح الفاشية مقاومة

TT

تعاظم العنف في العراق حتى أصبح من الصعب التمييز بين هذا الفعل العبثي وذاك. ولكن هناك صورة نشرتها هذه الصحيفة يوم الإثنين هزتني هزا عميقا. إنها صورة عدة رجال مسلحين عراقيين، وهم يقتلون في وضح النهار، ودون أن يخفوا أنفسهم بأقنعة، اثنين من موظفي الانتخابات العراقيين. مسرح الجريمة كان شارعا مزدحما في قلب بغداد. وقد سحب الموظفان من سيارتهما إلى وسط الشارع ليقتلا هناك. ويبدو أنهما كانا شبابا مثل ذلك النوع من الشباب الذين تراهم في الحملات الانتخابية في أميركا وأوكرانيا والسلفادور. كان أحدهما راكعا ويداه خلف ظهره، منتظرا طلقة في مؤخرة الرأس. وكان القاتل يقف فوقه، إما بعد أن أفرغ طلقة في رأسه أو قبل ذلك بلحظات.

رأيت الصورة أولا على الإنترنت، وفعلت شيئا لم أفعله من قبل. كبّرت الصورة حتى ملأت شاشتي. كنت أريد أن ألقي عليها نظرة فاحصة. فأنت لا ترى على الدوام تجسيدا للشر المطلق المحض.

هناك الكثير الذي يثير الكراهية في هذه الحرب الدائرة في العراق، ولكن ليس ثمة طريقة لإنكار خطورة القضايا مثار الاختلاف. فهذه حرب بين نفر من الناس في قلب العالم العربي الإسلامي يحاولون للمرة الأولى في تاريخ منطقتهم، أن ينظموا إنتخابات يختارون فيها قادتهم اختيارا حرا، ويصيغون دستورهم، وبين آخرين تجمعوا ليحولوا بينهم وبين ذلك الهدف. وتخدع نفسك إن صدقت أن هؤلاء عراقيون يدافعون عن بلادهم ولا يملكون بديلا عن ذلك. فالأقلية السنية التي حكمت العراق لسنوات عديدة ، دعيت إلى المشاركة في الانتخابات، دعوة وصلت إلى حد الاستجداء، ولأن تلعب دورها في رسم العراق واقتسام ثرواته في مرحلة ما بعد صدام.

والى ذلك أوضح لي مايكل ماندلباوم، خبير السياسة الخارجية بمعهد جون هوبكنز قائلا:

«هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم المقاومة في العراق ، هم الفاشيون الحقيقيون، الاستعماريون الحقيقيون، الإمبرياليون الحقيقيون في عصرنا ، إنهم أقلية ضئيلة تريد أن تحكم العراق بالقوة وتستأثر بثرواته وحدها. وقد حان الوقت لنسميهم باسمائهم الحقيقية».

وبصرف النظر عن الطريقة التي بدأت بها هذه الحرب، وبصرف النظر عن الطريقة التي أديرت بها، ومهما كنت تتمنى أن لو لم نذهب إلى هناك، فإن عليك ألا تخدع نفسك مطلقا حول طبيعتها: إنها بين نفر يريد أن يعقد انتخابات حرة لاختيار زعماء البلاد بصورة ديمقراطية، تعارضهم أقلية عدمية تريد أن تمنع ذلك. هذا كل ما يمثله المقاتلون.

والواقع أنهم لم يعبأوا حتى بتصنيف أنفسهم بصورة أخرى ، فقد اعتمدوا كليا على أن إدارة بوش مكروهة بصورة واسعة ، في كل أنحاء العالم ، وأن كل من يقاومها سيجد التأييد مهما كانت دوافعه، باعتبار أن العدالة في صفهم. ولكن العدالة ليست في جانبهم. إنهم يقتلون العراقيين لسبب واحد فقط ، هو حرمانهم من ممارسة حق هو نفسه الذي تتم المطالبة به للفلسطينيين، ولكثيرين في اليسار السياسي ، ولكثيرين من الأوروبيين، ألا وهو حق تقرير المصير.

المخيف في الأمر أن تضحيات جنودنا النبيلة ، والذين لن تذهب دماؤهم هدرا ، ربما لا تكون كافية. وربما نخسر الحرب في العراق. فالأمر البالغ الأهمية ربما يكون مستحيلا من الناحية العملية. إننا ربما نخسر الحرب بسبب المنهج الذي أدارها به دونالد رامسفيلد ، والطريقة التي احتمل بها ديك تشيني وجورج بوش ، بل كل اليمين الجمهوري ، مع استثناءات قليلة نبيلة ، منهج وزير دفاعهم وأخطائه.

ويمكن القول إن من الممكن أن يفضل كثير من الجمهوريين الهزيمة في العراق ، على إرضاء الليبراليين بطرد رامسفيلد. أو ربما نفشل لأن حلفاءنا العرب لن يحركوا ساكنا لتأييد الانتخابات في العراق، إما لأنهم يخشون أن تطرق الديمقراطية أبوابهم ضحى الغد، وإما لأنهم لا يرغبون في رؤية أغلبية شيعية تحكم بلدا كان يحكمه السنة بالأمس. أو ربما نفشل لأن الأوروبيين الذين تحول ضعفهم إلى غباء، يفضلون أن يشاهدوا هزيمتنا في العراق ، على أن يحركوا ساكنا من أجل الانتخابات الحرة في ذلك البلد.

وكما كان شأنه في كثير من الأحيان، فإن السياسي الذي أوضح حقيقة الأشياء، بدقة وبلاغة، هو رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. ويمكنك أن تقول عني منذ الآن انني «ديمقراطي بليري». قال المستر بلير:

«مهما كانت مشاعر الناس وآراؤهم، حول إزاحة صدام حسين وحكمة ذلك الإجراء، فإن هناك جانبا واحدا فقط يمكن الانحياز له في معركة أصبح واضحا جدا أنها بين الديمقراطية والإرهاب. ففي جانب يقف أولئك الذين يريدون للعملية الديمقراطية أن تنجح، ويريدون أن يستظلوا بنفس النمط من الحريات الديمقراطية الذي تتمتع به بقية العالم، وفي الجانب الآخر هناك الذين يمارسون القتل والابتزاز ويحاولون تدمير مستقبل العراق».

* خدمة نيويورك تايمز