.. إعلام تحريضي يغتال حلم العراق الناشئ

TT

في حديث وزير الداخلية العراقي، فلاح النقيب، الذي أدلى به لصحيفة «الشرق الأوسط» ونشرته الثلاثاء الماضي، نقاط تستدعي التوقف والمناقشة. فهو يشير الى «تلويح السنة بمقاطعة الانتخابات»، معتبرا ان ذلك ـ إذا ما تم ـ سيؤثر على سعة التمثيل الشعبي في البرلمان المقبل. تلك المقاطعة، التي قد تكون جزئية، ترتبط بأجواء الشحن الطائفي، التي غلّفت الخطاب الاعلامي العربي، في معظمه، وبشكل خاص منذ أن برز شيعة العراق كقوة سياسية مؤثرة بعد القضاء على نظام صدام حسين. في ذلك الحين توحد اتجاهان، عربي وإيراني، في دعوات العداء ضد أميركا بقصد افشال دورها في العراق بأي ثمن، وتقويض أي مسعى يصب في عملية إعادة البناء بذريعة وجود القوات المحتلة. فإيران استعدت قبل الحرب بشهور لإطلاق قناة «العالم»، وكرستها للتدخل في شؤون العراق، بالاضافة الى توظيفها لقناة عربية، تتبنى سياساتها. وعلى الارض تمدد نشاط ايران بإرسالها الآلاف تحت غطاء زيارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء وسامراء. وفي الجانب الآخر، استمرت دعوات فضائيات عربية الى «مقاومة المحتل»، وبدا ان الاعلام العربي، في معظمه، اكتشف ـ لتوه ـ مساحة اسمها العراق بعد التدخل الأميركي. وفي الوقت الذي تعاظم فيه الدور الايراني في العراق ونجح في توليد تشكيلات وأحزاب جديدة موالية، والضغط على أحزاب قديمة، افتقد العراقيون تعاطف العرب. وبدل أن يحتوي الأشقاء شيعة العراق ببذل المساعدة البناءة، وانهاض العراقيين جميعا لاجتياز عتبة الاحتلال، انشغل كثيرون منهم بالتحريض، ونابوا عن السنة والشيعة، مشجعين إياهم على القتال وممجدين بكتائب الانتحاريين الارهابيين، فالتقوا بذلك مع مرشد الثورة الايرانية، علي خامنئي، الذي أعلن صراحة دعم الانتحاريين وتدريبهم في ايران، معتبرا ان الطريق الى الجنة يمر فوق أشلاء العراقيين، سنة وشيعة. لقد طلع علينا خامنئي، بعد مأساة كربلاء والنجف في التفجيرات الأخيرة، ليلقي مسؤولية هذه الجرائم على الأميركيين والأسرائيليين، وهو بذلك يكرر ما يردده القوميون المؤدلجون في التحذير من مخططات الموساد المزعومة لتخريب العراق، وبث الفتنة الطائفية بين أبنائه، بينما الحقيقة تشير الى ان الداء فينا، عربيا واسلاميا.

ان احتمال مقاطعة السنة للانتخابات، التي أشار اليها الوزير النقيب، مقلق بالدرجة الاولى، لأنه لا يقدم صورة لما ننشده من عراق تعددي يتجاوز مراحل التمييز الطائفي، التي تواصلت في تاريخنا الحديث منذ العثمانيين وحتى سقوط النظام البائد. وثانيا هو مقلق لأنه ـ إن تحقق ـ يرفد الجماعات الارهابية بأسباب مواصلة جرائمها في بث التفرقة بين مكونات الشعب العراقي. كما أن المقاطعة تلحق الظلم بالسنة وتظهرهم، كما لو انهم كانوا كلهم ظهيرا لنظام صدام، في الوقت الذي لحق بأكثرهم طغيانه وجبروته كأشقائهم الشيعة.

لقد أشار الوزير النقيب ايضا الى دور الاعلام العربي المعادي للعراق، ضمنا، في معرض اتهامه لقناة «الجزيرة» بأنها تروّج للارهاب، بل وتدعمه. وهو لم يكن مخطئا. والواقع ان الباحث يحار في أمر قناة «الجزيرة» ومواقفها المزدوجة. فهي، مثلا، تبدو في قمة العداء للوجود الأميركي في العراق، من جهة، وللسياسات الاسرائيلية، من جهة ثانية، لكنها في الوقت نفسه دعت ارييل شارون لإجراء حوار معه، وهو الذي اعتذر، كما أنها لم تتردد في نقل احدى جلسات الكنيست الاسرائيلي مباشرة.

إن عدائية الاعلام العربي التحريضي للدولة العراقية الناشئة بعد طول خراب، تعبر عن تناقض واضح. فبينما يجري الحديث باعتزاز عن الدولة الفلسطينية المستقلة المرتجاة، وانتخابات الرئاسة الفلسطينية التي ستجري غير بعيد عن دبابات المحتلين الاسرائيليين، يتواصل التشكيك في عزم العراقيين على بناء دولتهم وتنظيم انتخابات فيها، بحجة انها تجري في ظل الاحتلال الأميركي.

بلا شك، لا يمكن تجاهل مشاعر الجماهير العربية في نفورها من الاحتلال، ولكن حين يدعو اعلاميون وسياسيون عرب الى الرحيل الفوري للقوات الاميركية من العراق، لماذا يتناسون ان اهم مقتضياته بناء مؤسسات الدولة وجيشها وشرطتها؟ إن الاعلام العربي التحريضي لعب ويلعب دورا غير مشرف في تاريخ العرب، منذ مطلع الخمسينات الى هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وهو اعلام أدى الى حرمان الفلسطينيين من فرص حلول كثيرة تحت شعار لاءات الخرطوم الشهيرة، وهو يلعب اليوم الدور نفسه في تدمير العراق ودفع أبنائه إلى الاقتتال.

* كاتبة عراقية